المحظوظ

william

المحظوظ

كثير منا نمتلك عيون ولا نرى، لا نرى إلا ما نريد أن نراه، وأشياء أخرى كثيرة، تكون واضحة جدًا، ونتعامى عنها.
لماذا؟ لأننا ببساطة.. لا نريد أن نراها.
– أمي … انظري.
قالتها جمانة الصغيرة صارخة، وقد اتسعت عيناها منبهرة كعادتها عندما يستحوذ انتباهها شيء يعجبها، فأخذت تشير بأصبعها الصغير في اتجاه قطًا صغيرًا مستغرقًا في اللعب بقطعة خبز بسعادة بالغة، بجواره شحاذ عجوز يشاركه اللعب في سعادة من لم يحمل همًا في حياته … أما الأم فالتفتت بلا اهتمام إلى القط؛ إذ أنها كانت مشغولة بتلك الأكياس الكثيرة والثقيلة التي خرجت بها من السوبر ماركت، فقالت وهي منشغلة:
– حسنًا يا جمانة، إنه بالفعل قط جميل، ولكن هيا بنا، علينا الآن أن نرحل؛ فيبدو أن في السماء عاصفة على وشك الهبوب، لذلك علينا أن نسرع.
بدأت والدة “جمانة” في فتح الباب الخلفي لسيارتها، وتركت عامل السوبر ماركت يضع الأشياء التي اشترتها، بينما كان والد “جمانة” مشغولًا بقراءة الصحيفة أمام عجلة القيادة، وما أن شعر أن الباب الخلفي لسيارته قد فُتِح، حتى عرف أن وقت الانتظار الطويل قد انتهي، وأخيرًا عليه أن ينهي من هذه المطالعة ويستعد لمغادرة المكان، فطوى جريدته وقال لزوجته:
– هل انتهيت؟
– أجل.
– لعلك لم تنسي شيئًا.
تجاهلت الزوجة نبرة السخرية الواضحة على صوت زوجها، وقالت:
– لا أعتقد.
نظر إلى الأكياس التي ملأت المقعد الخلفي للسيارة، حتى أن البنت انزوت في ركن ضئيل من المقعد حتى يتسع لكل هذه البضاعة المشتراه، ولم يستطع إلا أن يتمتم في حسرة:
– لم يتبق إلا أن تشتري صاحب المحل نفسه.
قالها في حسرة وضيق، ولكنه حرص أن يقولها بصوت غير مسموع حتى يتقي عاصفة زوجته الرعدية إذا ما سمعتها، بينما الزوجة مستمرة في وضع الأكياس، وتقول بانفعال لابنتها:
– تحركي يا “جمانة”، اتجهي ناحية الباب حتى يتسع المكان.
وأجبرت الزوجة طفلتها الصغيرة “جمانة” على الإلتصاق الشديد بالباب المغلق، ولكن “جمانة” نفذت أمر والدتها بينما كانت شاردة الذهن تمامًا، وأنهت الأم عملية نقل الأكياس وجلست هي بجانب زوجها بمنتهى الكبرياء والعزة، كمن دخلت موقعة حربية دامية، انتصرت فيها انتصارًا عظيمًا، وما أن استقرت في مجلسها حتى بدأ زوجها في إدارة محرك السيارة، ولكن فجأة صرخت جمانة من الخلف:
– أبي انتظر!
انتفض الوالد في ذعر ونظر إلى ابنته بسرعة:
– ماذا تريدين يا “جمانة”؟
– إنني أريد هذا القط يا أبي، أريده أن يكون لي.
نظر الأب إلى حيث أشارت، ليجد القط وهو مستمر في اللعب مع الشحاذ العجوز الذي يجلس بجوار حاوية القمامة الملتحقة بالسوبرماركت، وببساطة قال الأب:
– إنه قط جميل يا “جمانة”، ولكنه ليس لنا، إنه ملك لذاك الرجل العجوز الذي يلعب معه.
صرخت الطفلة:
– ليس ملكه، بل إنه يضايقه، أنا أريد هذا القط!
تحول الأب من الكلام الطبيعي إلى بداية ثورة:
– هذا قط أجرب وقذر، وسيملأ البيت بالقاذورات ويمكن أن يصيبك بالأمراض، لن أسمح بدخول هذا القط إلى المنزل مطلقًا.
وكأنما كان هذا الوعيد حافزًا لكي تنظر الأم إلى القط، كان القط جميلًا وطويل الشعر جدًا، وكان يعبث بقدم ذلك الرجل الفقير الذي لا يجد قوت يومه، ويعتمد على الإحسانات الشبه منعدمة لمن يخرج من السوبر ماركت، وأخيرًا قالت الزوجة:
– أتعرف يا زوجي العزيز … إن هذا القط جميل جدًا!
– جميل؟! بل أنه قذر.
– نستطيع أن نأخذه للطبيب البيطري، نستطيع أن نعطيه حقنة وننظفه بالشامبو، إنه بقليل من العناية نستطيع أن نجعل منه هرًا رائعًا.
– وعندما رأت الصغيرة “جمانة” رأي والدتها، شعرت بقرب تنفيذ طلبها، فبدأت باستخدام أسلحتها الطفولية المعتادة والفعالة، فصرخت باكية:
– أجل يا أمي … إني أريد هذا القط … إني أحبه وأريده … إنه متسخ لأنه بجوار ذلك الرجل القذر.
قال الوالد:
– لا أظنه يشكو من سوء الجوار، فها هو يلعب مع جاره العجوز بمنتهى السعادة، كلا … إذا أردت قطًا سأشتريه لك من محل الحيوانات الأليفة، ودعي هذا القط لصاحبه.
وبينما تعالت صرخات الصغيرة جمانة، قالت الزوجة بلهجة الحكيمة والعالمة بالأمور:
– أتعلم يا ألبير ماذا يقول علم النفس!!
وما أن سمع الزوج المسكين هذه العبارة، حتى عرف أنه سيستمع إلى محاضرة طويلة وغير مفهومة في علم النفس، فقال مسرعًا:
– لا أريد أن أعرف.
ولكنها تجاهلت التعليق واستمرت:
– يقول علم النفس إن الحيوانات الأليفة تخلق مشاعر المودة والرحمة والألفة لدى الطفل، وتجعله يشعر باحتياجات الناس من حولهم، تجعل الطفل يحن على الفقير وتبعد عنه حالة التبلد وعدم الإحساس بالغير و …
لم يستطع الأب أن يستمع لبقية المحاضرة، فأوقفها بعصبية قائلًا:
– كفي … هل تريدين هذا القط يا “جمانة”؟
توقفت الصغيرة عن البكاء المصطنع، ومسحت دمعتان وهميتان على خديها وقالت بسرعة:
– أجل يا أبي.
يخرج الأب بصورة عصبية من السيارة … يتجه إلى الرجل الفقير والذي جاوز الثمانين من عمره، فينظر الرجل إليه متعشمًا في إحسان، ولكن الأب يسأل في عصبية ظاهرة:
– هل هذا القط لك يا رجل؟
ينظر الرجل العجوز إلى القط بمحبة ظاهرة، ويبتسم في فخر وهو يقدم الشيء الوحيد الذي يملكه، ويقول:
– أجل، هو لي، أعتني به، ويعتني هو أيضًا بي … أحيانًا لا أجد سواه لأكلمه و…
قاطعه بنفس العصبية:
– ابنتي تريد هذا القط.
وبسرعة يمد يده وبعصبتيه ينتزع القط، ويتجه إلى السيارة ويعطي القط لزوجته ويقول:
– سأقفل النوافذ حتى لا يهرب.
ويدير سيارته ويترك المكان وسط صرخة الانتصار التي خرجت من فم “جمانة” السعيدة.
***
ببطء شديد يتسند الرجل العجوز على الحائط … إنه لم يأكل منذ دهر، يقول في نفسه مبتسمًا: “كم أنت محظوظ يا صديقي القط، زاملتني شهرًا من الزمان، كنت شريكي في لقمتي ومصدر تسليتي الوحيدة … آه … كم سأفتقدك!”
يتحرك العجوز ببطء في اتجاه حاوية القمامة وهو لا يزال يتحدث مع نفسه: “نحن الاثنان لم يوجد من يعيلنا، ولكنك وجدت حظك سريعًا، أما أنا … فلي زمن في هذا المكان، عريانًا، جوعانًا، وسخًا، ويبدو أني سأظل هكذا إلى أن أذهب إلى مقري الأخير.
وصل العجوز بخطواته البطيئة إلى حاوية القمامة، ينظر فيها، ويمد يده ليتناول كسرة خبز متعفنة … يأكلها ويتمدد بجانب الحاوية ينتظر الصباح وينظر إلى السماء.
– يبدو أنها ستمطر هذا المساء، ليعاونني القدير على احتمال هذه الليلة.
ويتذكر ذلك القط الذي كان يلتصق به في هذا الظرف، فيبتسم ويقول:
– ترى، ماذا تأكل الآن وأنت أمام المدفأة أيها القط المحظوظ؟!

المصدر: كتاب السباق الأخير

للكاتب :عماد حنا

 

مواضيع تهمك
شارك اصدقائك