يونان- دروسٌ إلهيةٌ في الرَّحمة

Roma
يونان- دروسٌ إلهيةٌ في الرَّحمة

  يونان-دروسٌ إلهيةٌ في الرَّحمة

يُقدِّم لنا سِفر يونان، على الرغم من قِصَرِهِ، رحلةً لاهوتيةً وعملية عميقة جدًّا في فهم شخصية الله. إنه ليس مجرَّد قصة عن نبيٍّ هارب وحوتٍ عظيم، بل هو كشفٌ مذهل لقلب الله الرَّحيم في مواجهة قساوة الإنسان وضيق أفقه. 

يُمثِّل الإصحاح الأخير من السِّفر ذروة هذا الكشف، حيث لا تعود المواجهة بين يونان وشعب نينوى، بل تصبح حوارًا مباشرًا بين الله ونبيِّه الغاضب. 

في هذا الحوار، يُعلِّمنا الله أروع الدروس عن طبيعة الغضب الصَّالح، وعن قيمة النفس البشرية، وعن رحمته التي لا يمكن احتكارها أو حصرها ضمن حدودنا البشرية الضيقة. هذه المقالة ستغوص في أعماق هذا الإصحاح الأخير؛ لتستخرج منه الدروس الخالدة التي نحتاجها اليوم أكثر من أيِّ وقتٍ مضى.

    إلهٌ يلاحق ويُعلّم

إنَّ جمال سِفر يونان يكمن في إظهاره أنَّ الله كان مع يونان في كلِّ مرحلةٍ من مراحل رحلته، سواء كانت تمرُّدًا أم طاعة. ففي الإصحاح الأول، نرى الله الذي يدعو ويكلِّف، باحثًا عن يونان في بيته ليرسله في مهمَّة. 

وفي الإصحاح الثاني، نجده الإله الذي ينجِّي وينقذ، مُحتضنًا يونان ومستمعًا لصلاته من عمق البحر. وفي الإصحاح الثالث، نراه الإله الذي يبارك ويرحم، مُعطيًا نجاحًا عظيمًا لكلمات يونان القليلة في نينوى. أمَّا في الإصحاح الأخير، فيكشف الله عن وجهٍ آخر من أبوَّته، فهو الإله الذي يوبِّخ ويُعلِّم. فبعد انتهاء المهمَّة بنجاحٍ باهر، لم يترك الله يونان لأفكاره الخاطئة، بل انفرد به ليُعطيه درسًا شخصيًّا وعميقًا، وهذا يُظهِر لنا أنَّ الله لا يهتمُّ فقط بنجاح الخدمة، بل يهتمُّ أيضًا بتنقية قلب الخادم وتصحيح مفاهيمه.

   غضبٌ في غير محلِّه

تكمن المشكلة الجوهرية في الإصحاح الأخير في غضب يونان. من الطبيعي والمطلوب أن يغضب المؤمن ضدَّ الشرِّ والخطية المنتشرة، فالغضب على الظلم والفساد هو غضبٌ مقدَّس. لكنَّ غضب يونان كان من النوع غير الطبيعي، لقد اغتاظ وغضب ليس بسبب شرِّ أهل نينوى، بل بسبب توبتهم ورحمة الله لهم. 

لقد غضب “لأجل أمرٍ صواب”، وهذا هو التناقض المأساوي. كان يرغب في رؤية دينونة الله تنزل على المدينة الوثنية، وعندما رأى محبَّة الله ورحمته تتجلَّى، شعر بالخزي والغضب. وهذا الموقف يكشف عن آفةٍ قد نصاب بها جميعًا، وهي أن نفرح بالصواب الذي يوافق أفكارنا المسبقة فقط، ونغضب عندما تأتي رحمة الله لتشمل أناسًا نعتبرهم غير مستحقِّين. لقد وبَّخه الرَّب مرتين بسؤالٍ كاشف: “هَلِ اغْتَظْتَ بِالصَّوَابِ؟”، داعيًا إياه لمراجعة قلبه ومصدر غضبه الحقيقي.

    درس اليقطينة العابرة

لكي ينقل الله الدرس من الإطار النظري إلى الواقع العملي، استخدم وسيلة إيضاحٍ بسيطة وعميقة في آنٍ واحد: اليقطينة. هذه النبتة ذات الأوراق العريضة التي نمت بسرعةٍ لتُظلِّل يونان من حرِّ الشمس، فأعطته راحةً مؤقتة وفرحًا كبيرًا. لكنَّها أيضًا ماتت بسرعة، فتركته حزينًا ومغتمًّا على ضياعها. هنا، جاءت مواجهة الله الحاسمة ليونان، حيث قال له ما معناه: “أَأَنْتَ شَفِقْتَ عَلَى الْيَقْطِينَةِ… أَفَلاَ أُشْفِقُ أَنَا عَلَى نِينَوَى الْمَدِينَةِ الْعَظِيمَةِ؟”. لقد حزن يونان وتألَّم من أجل نباتٍ عابرٍ لم يتعب فيه ولم يربِّه، بينما لم يستطع أن يفرح بخلاص مدينةٍ بأكملها، يُقدَّر عدد سكَّانها آنذاك بحوالي 600 ألف نسمة، بينهم 12 ربوة (120 ألف) طفل لا يعرفون التمييز بين الصواب والخطأ، بالإضافة إلى البهائم الكثيرة. 

هذا الدرس العمليُّ كشف ليونان، ولكلِّ من يقرأ السِّفر، عن الفجوة الهائلة بين اهتماماتنا البشرية الصغيرة والأنانية، وبين قلب الله الواسع الذي يهتمُّ بكلِّ خليقته.

   رَحمةٌ لا يمكن احتكارها

إنَّ الدرس الأسمى الذي أراد الله أن يُعلِّمه ليونان، وللأمَّة اليهودية من خلاله، وللكنيسة اليوم، هو أنَّ محبة الله ورحمته لا يمكن احتكارهما لشعبٍ معيَّن أو فئةٍ مختارة. لقد كان يونان يرى الله كإلهٍ خاصٍّ بشعبه، ولم يستوعب أنَّ هذا الإله هو أيضًا “أبو الخليقة” و”سيِّد الشعوب” كلّها. 

إنَّ رسالة السِّفر كلِّه هي تأكيدٌ على أنَّ “اللهَ يُرِيدُ أَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ يَخْلُصُونَ، وَإِلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ يُقْبِلُونَ” (رسالة تيموثاوس الأولى ٢: ٤). إنَّ خلاصه العظيم ليس موجَّهًا لمجموعةٍ دون أخرى، بل هو دعوةٌ مفتوحة للجميع لكي يرجعوا ويتوبوا. 

الله لا يترك نفسه بلا شاهدٍ في أيِّ أمَّة، وهو في بحثٍ دائم عن كلِّ نفسٍ ضالَّة ليردَّها. وهذا يدعونا اليوم لمراجعة أنفسنا، هل نضع حدودًا لرحمة الله في قلوبنا؟ هل نصنِّف الناس إلى من يستحق ومن لا يستحق؟ أم هل نتبنَّى قلب الله الأبوي الذي يتَّسع لكلِّ البشر، ويفرح بعودة كلِّ تائب؟

  خاتمة

في نهاية المطاف، يتركنا سِفر يونان أمام سؤال الله المفتوح، دون أن يخبرنا عن إجابة يونان النهائية. وهذا مقصود؛ لأنَّ السؤال موجَّهٌ لكلِّ واحدٍ منَّا اليوم. لقد كشف لنا السِّفر عن إلهٍ أمينٍ لا يتخلّى عنَّا حتى في تمرُّدنا وقسوتنا، فهو الذي يبادر بالدعوة، والإنقاذ، والبركة، والتعليم. 

الجمال الحقيقي ليس في مدى تمسُّكنا به، بل في حقيقة أنَّه هو المتمسِّك بنا بعهدٍ أبديٍّ من خلال يسوع المسيح. 

إننا مدعوُّون لأن نتخلَّى عن “يقطيناتنا” الصغيرة التي تشغلنا، وأن نرفع أعيننا لنرى العالم بقلب الله الممتلئ بالرَّحمة والشفقة، مدركين أنَّ دوره كإلهٍ يوبِّخ ويُعلّم هو أعظم دليلٍ على محبَّته التي لا تستسلم أبدًا.

الكاتب/ القس هاني ظريف – راعي الكنيسة الإنجيلية بالملك الصالح

 

مواضيع تهمك
شارك اصدقائك