من قسوة العبودية لامتيازات العهد
Roma

من قسوة العبودية لامتيازات العهد
في قلب الأسفار الخمسة الأولى من الكتاب المقدس، وفي عمق التاريخ التأسيسي لشعب الله، يقف سفر الخروج كشاهدٍ عظيم على قدرة الله الفائقة ورحمته التي لا تَنضب. إنه السفر الذي ينقلنا من أنين العبودية في أرض مصر، إلى ترنيمات الحرية وعِظَم امتيازات العهد الذي قطعه الرب مع شعبه.
هذا السفر المحوري، ليس مجرد قصة تاريخية عابرة، بل هو مرآة تعكس محبة الله ورعايته لنا، ودرس عملي في الإيمان والطاعة. إنه سفر لا غِنى عنه لفهم جوهر خُطة الله الخلاصية، ليس فقط للعهد القديم، بل ولكل ما ترتَّب عليه في عهد النعمة الجديد.
المحتوي
إشكاليات تاريخية وجغرافية وعَدَدِيَّة في سفر الخروج:
يواجه دارسوا سفر الخروج العديد من الإشكاليات التي تتطلب بحثًا وتواضعًا أمام النَّص المقدس، وهي إشكاليات لا تنتقص من قدسية السفر، بل تدعونا للتعمق والتفكر. من أبرز هذه الإشكاليات: تحديد تاريخ الخروج الدقيق، وتعيين هوية فرعون العبودية وفرعون الخروج، وهي أمور لم يصرح بها الكتاب المقدس بشكل مباشر.
إنَّ علم الآثار علم متغير باستمرار، لكنَّه يُشير إلى جهود علماء أمناء للنص الكتابي، أمثال اللاهوتي جيم هوفماير، في التنقيب عن أدلة رحلة الخروج في مصر.
كما تبرز إشكالية الجغرافيا؛ من أين خرج الشعب تحديدًا؟ هل من خليج العقبة كما يشير بعض الباحثين، أم من شمال خليج السويس كما يرى آخرون؟ أما الإشكالية الثالثة فهي العدد؛ هل تجاوز عدد الخارجين من مصر المليوني نسمة في ذلك الوقت؟ وهل تعرضت الأرقام لتغييرات عبر عمليات النسخ المتعددة؟ هذه الإشكاليات، وإن كانت تتطلب فهمًا دقيقًا، إلا أنها تزيدنا إيمانًا بعظمة النص الذي صمد أمام كل التحديات.
إعداد موسى وبداية الخلاص العظيم:
لم يكن خلاص شعب إسرائيل من أرض العبودية مجرد حدث عابر، بل كان جزءًا من خطة إلهية محكمة، بدأت بإعداد القائد الذي سيقود هذا الخروج العظيم: موسى. بعد أربعمائة عام قضاها الشعب في مصر، منها مائتي عام في عز وراحة في أرض جاسان، ثم مائتي عام أخرى من الذل والعبودية المُهانة، صرخ الشعب إلى الرب فاستجاب لصرخاتهم.
الرب لم يهيئ المشهد فقط، بل هيأ البطل أيضًا. لقد أعدَّ الرب موسى إعدادًا فريدًا، سواء روحيًا من خلال والدته التي غرست فيه الإيمان، أو علميًا حيث تربى بكل حكمة المصريين، أو حتى عسكريًا بخبرته في مناصب عسكرية في الجيش المصري.
هذا الإعداد العظيم أهَّله ليكون قائدًا عسكريًا فذًّا. بعد نجاة موسى المعجزية وهربه إلى مديان، التقاه الله في العُليقة المُشتعلة التي لا تحترق، ودعاه لقيادة شعبه. رغم محاولات موسى المتكررة لتقديم الأعذار، والتي اختلفت تمامًا عن جرأته السابقة قبل أربعين عامًا عندما حاول تخليص شعبه بقوته الذاتية، إلا أن الرب كان قد أعده خلال هذه السنوات الأربعين بصورة خاصة ليقود الشعب بقوة الله.
في هذا الجزء، يتناول السفر أيضًا انضمام هارون إلى موسى وتكوين الفريق الذي وقف أمام أعظم سلطة على الأرض آنذاك، فرعون مصر. ثم تتوالى الضربات العشر التي ألحقها الرب بمصر، كل ضربة بتفاصيلها وتأثيرها الهائل على الاقتصاد المصري والحالة الروحية للشعب، إلى أن قادهم الرب في النهاية عبر البحر الأحمر بشكل معجزي، معلنًا بذلك خلاصهم وترنيمة مريم المنتصرة.
العهد المقدس وتأسيس الأمة الدينية:
بعد الخروج الملحمي، ينتقل سفر الخروج إلى مشهد آخر لا يقل عظمة ورهبة، وهو لقاء الرب بشعبه في خروج الإصحاح التاسع عشر على جبل سيناء. هنا، يصف الكتاب المقدس مشهدًا مهيبًا، حيث حلَّ مجد الرب على الجبل، متجليًا في السحاب والرعد والبروق. إنه مشهد يدعو للتأمل في قداسة الله وعظمته، وكيف ينبغي لنا أن نقترب منه باحترام وتقوى.
يلي ذلك جزء محوري في السفر، وهو الحديث عن العهد وكلمات العهد، وتحديدًا الوصايا العشر في الإصحاح العشرين، التي لخصها الرب في مبدأين أساسيين: محبة الرب ومحبة القريب. ثم تأتي أحكام العهد وتفصيلاته في الإصحاح الرابع والعشرين، والتي شكلت أساسًا للنظام الديني والاجتماعي لهذه الأمة. يتحدث السفر أيضًا عن ترتيب الملف الديني وتأسيس الأمة الثيوقراطية (حكم الله)، بما في ذلك الكهنة ووصفهم الوظيفي.
الجزء الأخير يتناول بناء خيمة الاجتماع، التي كانت مشروعًا قوميًا عظيمًا توحَّد فيه الشعب لعمل ما طلبه الرب منهم. ورغم أن السفر بدأ بالهوان والعبودية والمذلة، إلا أنه يُختتم بمجد عظيم، حيث حلَّ مجد الرب في الخيمة، حتى إن الكهنة لم يستطيعوا الوقوف بداخلها، دلالة على التحول الرهيب الذي حدث بين بداية السفر ونهايته، من العار إلى المجد الإلهي الساكن.
الخاتمة:
إن سفر الخروج هو بحق سفرٌ جميل وعظيم، يزخر بالقضايا الروحية والعملية والكنسية والمجتمعية. إنه يدعونا إلى التفكر في كيفية عبادتنا لله، من حيث المبنى والمضمون والتنظيم، وكيف نعيش بحسب الوصايا العشر التي لخصها الرب في محبة الله ومحبة القريب.
هذا السفر هام للغاية، ودراستنا له سواء فرديًا أو مع العائلة أو الكنيسة، ستعمِّق فهمنا لمحبة الله وقدرته، لنتذكر دائمًا أن الله الذي أخرج شعبه من عبودية مصر هو ذاته الإله الذي يخرجنا من كل قسوة وعبودية في حياتنا، ويدعونا لامتيازات عهده الأبدي.
الكاتب/ الدكتور القس هاني ظريف – راعي الكنيسة الإنجيليَّة بالملك الصالح
التصنيف/ (موحدون أم مشركون – قضايا فكرية)