هل تناقضت الأناجيل في عدد صيحات الديك؟

Roma
هل تناقضت الأناجيل في عدد صيحات الديك؟

 هل تناقضت الأناجيل في عدد صيحات الديك؟

 وما إنْ كَانَ هذا صوتَ ديكٍ حقيقي، أم رمزًا للبُوق العسكري. الأغرب هو ظَنُّ البعضِ أنَّ الأناجيل مُتَنَاقِضَةً، أو أنَّ الحدثَ رمزيٌّ لا تاريخيٌّ. هذه المقالة تُجيب عن هذه الشُّبهة بدِقَّة، وتستوضح النُّصوصَ والآراءَ المختلفة بشكلٍ حيادي.

  كم مرةً صاح الديك؟ نظرةٌ كِتابيَّة

إنجيل مَرقُس هو الوحيدُ الذي يَذكُر صِياحَ الدِّيك مَرتين (مَرقُس ١٤: ٧٢)، ويقول إنَّ الدِّيك صاح مرةً أولى، ثمَّ ثانيةً بعد الإنكار الثَّالث. أمَّا في متَّى (٢٦: ٧٤-٧٥)، ولوقا (٢٢: ٦٠-٦١)، ويوحنَّا (١٨: ٢٧)، يُذكَر فقط الصِّياحُ الذي تَلا الإنكارَ الثالث؛ فقط لأنَّ تركيزَ الكَتَبة كَانَ على اللحظة المؤثرة.

النتيجة: أنَّ الدِّيكَ صاح فعلًا مَرتين؛ إنَّما التركيزُ الروحيُّ والانتباهُ لهذا الحدث جاء مُنصَبًّا على الصِّياح الثَّاني. لا تناقضَ هُنا، إنَّما سَرْدٌ مختلفٌ بحسب الهدف.

  بُوقٌ أم دِيكٌ فِعلي؟ رأيان!

  الأوَّل: البُعد التاريخي:

تَعني الكلمة اليونانيَّة ἀλεκτοροφωνία (alektorophōnia) “صياح الدِّيك”، لكنَّها لم تكن تقتصر على الدَّلالة الحَرْفيَّة، بل كانت تُستخدم أيضًا كتعبيرٍ عن توقيتٍ ليليٍّ معروف، هو نهاية الورديَّة العسكريَّة الرُّومانيَّة الثالثة، الممتدة من منتصف الليل حتى الثالثة فجرًا. في هذا الوقت، كَانَ الجنود الرومان يسمعون بوقًا يُطلَق كإشارة لتبديل الحراسة، وهو ما عُرف في اللاتينيَّة باسم gallicinium، أي “صياح الديك”.

من هنا، قد يكون قصد الكاتب من هذا التعبير هو تحديد لحظة زمنيَّة مألوفة أكثر من كونه وصفًا لصوت ديك فعلي. فالكاتب، وهو مدركٌ للواقع العسكريِّ في أورشليم، استخدم لُغةً مفهومةً لجمهور زمانه؛ ليربط الحدث بزمنه بدِقّة.

لمزيدٍ من التَّوضيح التَّاريخي! في الحياة العسكريَّة الرومانيَّة، كَانَ الليل يُقسَّم إلى أربع “مراقبات”، كلٌّ منها مدتها ثلاث ساعات، تبدأ من غروب الشمس. وعند انتهاء كل مراقبة، كَانَ يُطلَق بوقٌ مُميَّز لإعلام الجنود بالتبديل، خاصة عند انتهاء المراقبة الثالثة، من هنا، صار تعبير “صياح الديك” شائعًا للدلالة على هذا التوقيت الليلي، حتى في المجتمعات التي لم تكن فيها ديوكٌ بالمعنى الحرفي. 

وهذا لا يُنكر احتمال وجود ديك فعلي صاح أيضًا، بل يدعم فكرة أنَّ التعبير قد يشير إلى حدث زمني محدَّد، سواء بصوت ديك أو بوق. 

فالقصد من ذِكر “صياح الديك” في الأناجيل هو تحديد اللحظة التي فيها تذكَّر بطرس كلمات الرب، وليس تقديم وصف بيئي لحيوانات المدينة.

الثَّاني: البُعد الحرفي:

تؤكِّد مصادر مُذيَّلةٌ أدناه في ختام المقالة، أنَّ الدَّجاج كَانَ موجودًا في المدينة، رغم أنَّ هناك قيودًا كانت أو تعليماتٍ دينيَّةً (طقسيَّة)، تمنع أو لا تُفضل وجود أنواع معيَّنة من الحيوانات داخل أو بالقرب من الهيكل اليهودي في أورشليم؛ لأنه مكان مقدَّس.

من هذه الحيوانات: الدجاج والديكة؛ لأنها قد تُعتبَر نجسةً، أو غير مناسبة طقسيًّا بحسب التقليد اليهودي؛ بسبب الفضلات أو الضوضاء، أو احتمال تدنيس المكان المقدس؛ مما يعزز احتمال صدور الصياح فعلاً من ديكٍ حيٍّ.

   الخلاصة: المُرجَّح هو وجود صياحين فِعليَّين — أحدهما رمزي (البوق)، والثاني طبيعي (الدجاج).

  رسالة لنا من “ثالث صياح!”

  •     الاستيقاظ: مِثل هذا الصياح “الثالث”، يُذكرنا بالسَّقطات وحاجتنا إلى الفداء.
  •    التَّوبة: كَانَ الصياح نقطة تحول في حياة بطرس، مثله في ذلك كالكلمة التي توقظ قلوبنا من غفلة الخطيَّة.
  •   إعلان رحمة الله: قبل الصياح كانت خطيئة، بعده رجعةٌ لقلب الرَّب المُحِب الأبوي.
  • نعم كَانَ صوتُ الدِّيك (أيًّا كانَ رمزيًّا أو حقيقيًّا) خارجيًّا، لكن التوبة التي حرَّكها كانت داخل قلب بطرس. هذا المشهد لا يتوقف عند لحظة بكاء، بل يفتح باب الرجاء. فالذي أنكر، عاد ووقف يوم الخمسين يشهد للمسيح بكل جرأة، وأصبح من أعمدة الكنيسة الأولى. 

أيقظَ صياحُ الدِّيك بطرس من غفوته، ويا ليته درسٌ يوقظ كلَّ مؤمن انشغل وسط زحام الحياة عن صوته الداخلي. 

الدرسُ هنا ليس عن ديكٍ صاح، أو توقيت بوق، بل عن نعمة لا تتخلَّى، وصوتُ رحمةٍ إلهيَّة تُبكِّت القلب، وتُقيمه من جديد.

  الخاتمة

صياح الدِّيك ليس لغزًا أو تناقضًا في الأناجيل، بل حدث دقيق يحمل بُعدًا زمنيًّا وتربويًّا وروحيًّا. 

هنا نحن أمامَ دعوةٍ صادقةٍ للتوبة، والتذكير بكلمة الرب، وبدء صفحة جديدة من النعمة. ما أحوجنا إلى أن نُصغي لذلك الصوت حين يوقظنا من غفلتنا، لا لندين أنفسنا، بل لنعود بقلب منسحق إلى الإله الذي لا يرفض التائبين.

المصادر:

  • 1. الكتاب المقدس (ترجمة فاندايك) – الأناجيل الأربعة: متى ٢٦، مَرقُس ١٤، لوقا ٢٢، يوحنا ١٨.
  • 2. موقع الأنبا تكلاهيمانوت – تفسير الأناجيل، ومقال: “هل كَانَ هناك ديك فعلاً؟” https://st-takla.org
  • 3. القاموس الكتابي – دار الثقافة، مادة “الديك” و”المراقبات الرومانيَّة الليليَّة”.
  • 4. الخوري بولس الفغالي – دراسات تفسيريَّة في الأناجيل، بيروت.

إعداد/ مينا نبيل

 

مواضيع تهمك
شارك اصدقائك