من القلب أم مُجَرَّد واجب؟
Roma

حوار من القلب أم مُجَرَّد واجب؟
(الصلاة المسيحية)
في رحلة كُلِّ إنسان نحو الله، تَظَلُّ الصَّلَاة هي النبضَ الحَيَوِيَّ الذي يَصِلُ المخلوقَ بالخالق، وهي الركن الذي لا يكتمل بناء الإيمان بدونه.
جميعنا نسعى للوقوف بين يدي الله، لكن هل تَوَقَّفْنَا يومًا لِنَتَأَمَّل في عمق هذه العَلاقة؟
هل تَوَقَّفنا للتفكير في هل الصَّلاة فَرْض نُؤَدِّي فيه واجبات مُحدَّدة يومية تجاه الله؟
أم هي علاقة حَيَّة ومُتَجَدِّدَة بين طرفين يسمعان بعضهما ويتبادلان الحديث؟
هل هي من طرف واحد فقط، هو العبد المذنب المُقصِّر الخاطي، الذي يسعى لإرضاء سيده الجبَّار؛ كي يتجنب غضبه وعقابه الشديد؟
أم الله بالفعل يرد على الإنسان حينما يتحدث إليه؟!
دعونا نسكتشف معا في هذه المقالة أن الصلاة ليست مُجَرَّد كلمات نُرَدِّدُهَا، بل هي حوار مفتوح نابع من قلب صادق بين المخلوق المحدود والخالق غير المحدود؟!
دعونا في هذه السطور نتعرف معًا على النظرة المسيحية للأمر؛ إذ ترى المسيحية الصَّلَاة كأعظم محادثة حُبٍّ يمكن أن يخوضها الإنسان مع الله الذي أَحَبَّهُ أَوَّلًا.
المحتوي
الدَّافع هو الحُبُّ، لا الخوف
لكي نفهم أيَّ فعل، يجب أن نفهم الدافع من ورائه. فَكِّرْ في أقرب الناس إلى قلبك، هل تتحدث معهم لِأَنَّكَ “مُجْبَر؛” أم لِأَنَّكَ تجد في صحبتهم ومشاركتهم تفاصيل حياتك متعة وراحة؟
هذا هو بالضبط منطلق الصَّلَاة في المَسِيحِيَّة. إِنَّهَا لا تنبع من الخوف من إله غاضب يجب إرضاؤه، ولا من الطمع في ثواب مَادِّيٍّ نكسبه، بل هي استجابة طبيعية وعفوية لقلب أدرك أَنَّهُ محبوب. أساس الإيمان المَسِيحِيِّ هو أَنَّ الله هو المحبة، وَأَنَّهُ بادر بهذه المحبة تجاهنا بشكل غير مشروط.
لذلك، نحن لا نُصَلِّي لنجعل الله يُحِبُّنَا، بل نُصَلِّي لِأَنَّنَا اكتشفنا حقيقة أَنَّهُ يُحِبُّنَا بالفعل. الصَّلَاة هي طريقتنا لنقول له: “شكرًا لك يا الله على مَحَبَّتِكَ التي سبقتني،
وأنا أريد أن أبقى قريبًا منك وَأُبَادِلَكَ هذا الحُبَّ”. إِنَّهَا علاقة مبنية على البُنُوَّة والثقة، حيث ننظر إلى الله كـ “أب” حنون، فكما عَلَّمَنَا السَّيِّدُ المسيح،
يمكننا أن نلجأ إليه في أَيِّ وقت بثقة ودالّة، عالمين أَنَّهُ يستقبلنا دائمًا بقلب مفتوح. هذا الشُّعُور بالقبول يُحَرِّر الصَّلَاة من كونها عبئًا،
ويجعلها امتيازًا ولحظة فرح ننتظرها.
حوارٌ صادق، لا مُجَرَّد كلمات محفوظة
ماذا لو كانت الصَّلَاة هي المساحة الأكثر أمانًا في العالم، حيث يمكنك أن تكون على طبيعتك تمامًا؟ في المنظور المَسِيحِيِّ، الصَّلَاة هي حوار حقيقي وصادق.
إِنَّهَا ليست مُجَرَّدَ تلاوة لكلمات محفوظة لا نعيشها. بل هي دعوة مفتوحة لمشاركة الله كُلَّ شيء. يمكنك أن تتحدث معه عن فرحة نجاحك الصغيرة،
وعن قلقك من المستقبل، وعن حزنك العميق، وعن غضبك من الظُّلْمِ، وَحَتَّى عن شكوكك وأسئلتك التي تخاف أن تطرحها على أَيِّ شخص آخر.
الله لا يَهْتَمُّ ببلاغة العبارات بقدر ما يَهْتَمُّ بصدق النَّبَضَات. هذا الحوار له اتِّجَاهَان: نحن نتكلم، ونصمت لنسمع.
“سماع” صوت الله لا يعني بِالضَّرُورَة سماع صوت مَادِّيّ، بل قد يأتي على شكل شعور بالسلام يغمر قلبك بعد أن أفرغت ما فيه، أو فكرة مُلْهِمَة تُقَدِّم لك حلًا لمشكلة، أو آية من الكتاب المُقَدَّس تلمس واقعك فجأة، أو حَتَّى عبر نصيحة صديق مُحِبٍّ.
إِنَّهَا علاقة حَيَّةٌ تَتَضَمَّنُ كُلّ أنواع الحديث: فيها التَّسْبِيح لعظمته، وَالشُّكْر على عطاياه التي لا تحصى، والاعتراف بضعفنا طالبين القوة والغفران،
وكذلك الطلب من أجل احتياجاتنا واحتياجات من نُحِبُّ، واثقين أَنَّهُ أب صالح يَهْتَمُّ حَتَّى بأصغر العصافير، فَكَمْ بِالحَرِيِّ يَهْتَمُّ بنا نحن؟
علاقةٌ تنمو، لا طقوسٌ جامدة
إذا كان الهدف من الصَّلَاة هو بناء علاقة، فهذا يعني أَنَّهَا لا يمكن أن تُحتَجَز في قالبٍ واحد جامد. تمامًا كما تَتَغَيَّرُ طريقة حديثنا مع أصدقائنا بحسب الموقف،
كذلك تَتَنَوَّعُ أشكال الصَّلَاة في المَسِيحِيَّة. لا يوجد وقت “صحيح” أو “خاطئ”، ولا مكان واحد مُحَدَّد. يمكنك أن تُصَلِّيَ في هدوء غرفتك فجرًا، أو وأنت تسير في الطريق إلى عملك، أو في قلب الطبيعة، أو حَتَّى في صمت تَامٍّ وأنت تشعر بحضوره. بينما توجد صلوات جميلة مثل “الصَّلَاةِ الرَّبَّانِيَّةِ” التي عَلَّمَهَا المسيح لتلاميذه،
إِلَّا أَنَّهَا تعتبر مدرسة ونموذجًا للصلاة، وليست قيدًا عليها.
إِنَّهَا تُعَلِّمُنَا عن أَيِّ شيء نُصَلِّي: تمجيد اسم الله، خضوعنا لمشيئته، طلب احتياجاتنا اليومية، وغفراننا لمن أخطأ إلينا. الهدف النِّهَائِيُّ من الصَّلَاة ليس “إتمام المُهِمَّة” أو “تحصيل النِّقَاط”، بل هو “التَّغْيِير”. فَكُلَّمَا قضينا وقتًا أطول مع شخص نُحِبُّهُ، نبدأ في اكتساب بعض من صفاته. بالمثل، فَكُلَّمَا قضينا وقتًا أطول في حوار مفتوح مع الله، نَتَغَيَّرُ لنصبح أكثر محبةً وصبرًا ورحمة. العلاقة مع الله في حد ذاتها هي الجائزة الكبرى.
في الختام، إِنَّ دعوة المَسِيحِيَّة للصلاة هي دعوة للدخول في أعمق تواصل مليء بالمحبة، مع خالق الكون الذي يعرفك باسمك، وَيَهْتَمُّ بِأَدَقِّ تفاصيل حياتك.
إِنَّهَا دعوة لِلتَّحَرُّرِ من صلاة الواجب إلى صلاة الشَّوْقِ، ومن صلاة الخوف إلى صلاة الثقة. وبعيدًا عن أَيِّ خلافات، تَظَلُّ هذه دعوة قلبية لِلتَّجْرِبَةِ:
في المَرَّةِ القادمة التي تشعر فيها بثقل على صدرك أو فرح يغمر روحك، جَرِّبْ أن تهمس به في حوار بسيط وصادق مع الله. فقد تكتشف أَنَّ أعظم عطايا الصَّلَاة ليست الإجابات التي تأتيك، بل العلاقة التي تبنيها مع من يسمعك دائمًا.
• الكاتب/ مينا نبيل