ثمينٌ في عيني الله
Roma

ثمينٌ في عيني الله
منذ فجر الخليقة، وبزوغ شمس الحياة، ظلَّ وسيظلُّ الانسان موضوع اهتمام الله ومحور محبته. فالانسان لم يُخلق صدفةً، ولا هو نتاج تطوُّر أعمى، بل هو عملٌ فنيٌّ صنعته يدُ الله القديرة بحكمةٍ ومقصدٍ عميق يقف أمامهما العقل منبهرًا، مترنِّمًا في قلبه بعظمة الرب وإبداعه ولا محدوديته.
مع ذلك، ويا للأسف، كثيرون في هذا العالم يشعرون أن حياتهم بلا قيمة، وأنهم مجرد رقم وسط سيلٍ منجرف من الأرقام، وسنوات هادرة تمضي وسط زمن لا يرحمهم!
لكن رسالة المسيح تكشف لنا عن حقيقةٍ مدهشة: أن الانسان في عيني الله ثمينٌ جدًّا، محبوب بلا قيدٍ أو شرط، يحمل له خالقه المُحب الحنون خُطةً إلهيةً مدهشةً رائعة.
المحتوي
صورة الله مطبوعة في الانسان
يُعلن الكتاب المقدس أن الله خلق الانسان على صورته ومثاله، قائلًا: «فَخَلَقَ ٱللهُ ٱلْإِنسَانَ عَلَى صُورَتِهِ. عَلَى صُورَةِ ٱللهِ خَلَقَهُ. ذَكَرًا وَأُنثَى خَلَقَهُمْ» (تكوين ١: ٢٧).
هذه الكلمات القصيرة تضع أساس كرامة الانسان فوق كل وأي شيءٍ آخر، لا في الحياة برُمَّتها، بل الوجود بأكمله. فصورة الله لا تعني أن الله له شكلٌ مادي، بل تشير إلى أنه منح الانسان قدرات روحية وعقلية وأخلاقية تميِّزه عن سائر المخلوقات.
. هذه المزايا ليست صدفة، بل هي جزءٌ من هوية الانسان الأصيلة. لهذا السبب، لا تُقاس قيمة الانسان أبدًا بما يملك أو بما يفعله، بل بما هو في جوهره: أي إنه صورة الله في العالم.
من هنا نفهم أن كل إنسان، مهما كان فقيرًا أو ضعيفًا أو مختلفًا، له كرامة أصيلة لا يمكن أن تُنتزع منه؛ لأن الله هو الذي وضعها فيه. وعندما ننظر إلى الآخرين بهذه النظرة، نتعلَّم أن نحبَّهم ونحترمهم، تمامًا كما يراهم الله ويحبهم، لا كما يصنِّفهم الناس.
السقوط لا يُلغي القيمة
قد يقول قائل: إذا كان الانسان مخلوقًا على صورة الله، فلماذا نرى في العالم كل هذا الشرِّ والظلم والفساد
الجواب أن الانسان، في حريته، اختار أن يسلك طريق العصيان، فدخلت الخطيئة إلى قلبه وأفسدت علاقته بالله وبنفسه وبالآخرين. لكن المدهش أن هذا السقوط لم يُلغِ قيمة الانسان في نظر الله. نعم، تضرَّرت الصورة، لكنها لم تُمحَ. تلطَّخت بالضعف، لكنها لم تُكسر.
في سفر المزامير يقول المرنِّم:
“فمن هو ٱلْإِنسَانُ حَتَّى تَذْكُرَهُ، وَٱبْنُ آدَمَ حَتَّى تَفْتَقِدَهُ؟ وَتُنَقِّصَهُ قَلِيلًا عَنِ ٱلْمَلَائِكَةِ، وَبِمَجْدٍ وَبَهَاءٍ تُكَلِّلُهُ” (مزمور ٨: ٤-٥)
حتى بعد السقوط المدوي المُخزي، ظلَّ الله يذكر الانسان ويفتقده؛ لأن محبته لا تتوقَّف عند حدود الخطيئة.
وهذا هو الفارق بين نظرة البشر ونظرة الله: فالبشر ينسون ويُسقِطون من حساباتهم من يُخطئون، أمَّا الله فيسعى وراء الخاطئ ليُقيمه. من هنا نرى أن خطايانا لا تغيِّر قلب الله نحونا، بل تُظهر كم نحن محتاجون إليه ليُعيد إلينا ما فُقد.
محبة الله المتجسِّدة
أعظم دليل على قيمة الانسان هو أن الله نفسه اختار أن يأتي إلى عالمنا في صورة انسان، لا كقاضٍ أو ملك متسلِّط، بل كمخلِّص متواضع.
تجسُّد المسيح ليس حدثًا دينيًا فحسب، بل هو إعلان عملي عن مقدار محبة الله للبشر. فالانسان الذي سقط، لم يتركه الله في ظلمة الخطيئة، بل نزل إليه في شخص يسوع ليحمله من الهاوية إلى النور.
قال الرب يسوع: “لِأَنَّ ٱبْنَ ٱلْإِنسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُهْلِكَ أَنْفُسَ ٱلنَّاسِ بَلْ لِيُخَلِّصَ ” (لوقا ٩: ٥٦)
هذا الإعلان العجيب يوضح أن كل إنسان له مكان في قلب الله، وأنه لا توجد حالة ميئوس منها.
المسيح لم يأتِ لأجل الصالحين، بل لأجل الذين يشعرون أنهم بلا رجاء. جاء ليقول لكل واحد: “أنت لست مرفوضًا، أنت محبوب، أنا أعرفك باسمك، وأريد أن أرفعك من عبودية الخوف إلى حرية البنين.”
حين ننظر إلى الصليب، نرى بوضوح كم يساوي الانسان في عيني الله. فالثمن كان دمه، والحب الذي حمله كان أقوى من الموت. لذلك، لا يمكن أن نقول بعد اليوم إن حياتنا بلا معنى؛ لأن الله نفسه رأى أننا نستحق أن يُبذل لأجلنا.
مجد الانسان المسترد
لم ينتهِ عمل الله عند الفداء، بل بدأ منه طريقًا جديدًا. في المسيح، تُستَرَد صورة الله التي تشوَّهت بسبب فِعل الإنسان، ويُعاد الانسان إلى مكانته الحقيقية كابنٍ محبوبٍ لله. فالعلاقة التي انقطعت تُجدَّد، والقلب الذي كان خائفًا يمتلئ سلامًا.
يقول الرسول بولس: «فَإِذْ قَدْ تَبَرَّرْنَا بِٱلْإِيمَانِ لَنَا سَلَامٌ مَعَ ٱللهِ بِرَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ» ( رومية ٥: ١).
هذا السلام ليس مجرد شعور مؤقَّت، بل هو حالة مصالحة دائمة تجعل الانسان يعيش في حضور الله بلا خوف.
ومن هنا يبدأ التغيير الحقيقي. فحين يعرف الانسان قيمته في نظر الله، تتغيَّر نظرته إلى نفسه وإلى الآخرين.
ولا يعود يبحث عن تقديرٍ زائف من الناس؛ لأن كرامته تأتي من محبة الله التي لا تزول.
كما يتحوَّل من شخص أناني يسعى إلى ذاته، إلى إنسان محب يسعى لخير من حوله؛ لأن من اختبر محبة الله لا يستطيع إلا أن يمنحها.
الانسان في المسيح لا يعود أسير الماضي أو الذنب أو نظرة المجتمع، بل يعيش حرًّا، مرفوع الرأس، عارفًا أنه محبوب ومقبول كما هو. وهذه الحرية هي أعظم عطية يمنحها الله لمن يؤمن به.
الخاتمة
قيمة الانسان في المسيحية ليست نظرية أو شعورًا عاطفيًا، بل هي حقيقة راسخة في قلب خطة الله.
فالانسان خُلق على صورة الله، وسقط لكنه لم يُرفض، وجاء المسيح ليُعلن له محبته، ويُعيده إلى مجده الأول.
وكل من يقترب من الله في صدق يكتشف أنه لم يكن يومًا بعيدًا عن نظره، بل كان الله يبحث عنه منذ البداية.
قد لا ترى نفسك عظيمًا في عيون الناس، لكن في عيني الله أنت غالٍ جدًّا، لأنك جزء من قصته، ولأن دم المسيح سُكب لأجلك.
دعوة شخصية
ربّما تشعر أنك بلا قيمة أو أنك أخطأت كثيرًا، لكن الله لا ينظر إليك بعين الإدانة، بل بعين المحبة.
اقترب منه اليوم، وتحدَّث إليه ببساطة، وقل له: “يا رب، علِّمني أن أرى نفسي كما تراني أنت، وأن أكتشف قيمتي في محبتك.”
فهو ينتظرك بقلب مفتوح؛ لأنك ثمين في عينيه، ومحبوب منذ الأزل.
· الكاتب/ مينا نبيل
· التصنيف: (موحدون أم مشركون – قضايا فكرية).