مفهوم الوحي في المسيحية
Roma
مفهوم الوحي في المسيحية
المحتوي
من حوالي 11 عاما، تحديدا في العام 2013، كان طُلاب الثانوية العامة في مصر، على موعد مع سؤال غريب، في مادة اللغة العربية، لم يكن أحد يتوقعه أحد، حتى أساتذة اللغة العربية، وهو جمع كلمة (وحي)، ما أثار الاندهاش وقتها، ودفع كثيرين للبحث عن أصل هذه الكلمة، في محاولة لتحليلها، والوصول إلى معناها الدقيق، ومعرفة ما إذا كان يمكن جمعها أم لا، وتشير كلمة وحي في المعاجم العربية إلى (ما يُخبَر به الشخص)، وجمع هذه الكلمة بالمناسبة هو (وُحِيٌّ).
هنا علينا عدم الخلط ما بين الوحي الإلهي، والإلهام بالنسبة للفنانين والشعراء.
وهذا سيقودنا لموضوع هذه المقالة، عن المفهوم الصحيح والدقيق للوحي في المسيحية، والذي يختلف كثيرا عن الوحي في بعض الأديان!
ببساطة، يُمكن أن نُعرِّف الوحي الإلهي بأنه “مَا يُوحِي بِهِ اللَّهُ إِلَى أَنْبِيَائِهِ مِنْ كَلاَمٍ لِعِبَادِهِ”،
توجد آيتان تُعبران عن الإيمان المسيحي فيما يتعلق بمسألة الوحي المُقدَّس
1- أن “كُلُّ الْكِتَابِ هُوَ مُوحًى بِهِ مِنَ اللهِ، وَنَافِعٌ لِلتَّعْلِيمِ وَالتَّوْبِيخِ، لِلتَّقْوِيمِ وَالتَّأْدِيبِ الَّذِي فِي الْبِرِّ،” (رسالة بولس الرسول الثانية إلى تيموثاوس 3: 16).
2- وتؤمن المسيحية أيضًا بأنَّه “لَمْ تَأْتِ نُبُوَّةٌ قَطُّ بِمَشِيئَةِ إِنْسَانٍ، بَلْ تَكَلَّمَ أُنَاسُ ٱللهِ ٱلْقِدِّيسُونَ مَسُوقِينَ مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ”. (رسالة بطرس الرسول الثانية 1: 21).
إنَّ كلمة (مُوحىً)، التي وردَدَت في رسالة بولس الرسول الثانية إلى أهل تيموثاوس، في اللغة اليونانية الأصلية، التي كُتِب بها العهد الجديد، تأتي بمعنى (نَفَخَ)، وتركيب الكلمة في اليونانيَّة يأتي في المبني للمجهول، بالتالي ترجمة «موحى به من الله»؛ تُعني «نُفِخت من الله»؛ ما يعني بكل وضوح، أن الكتب المقدسة تمَّ الوحي بها بروح الله؛ لذلك كثيرًا ما تجد في أسفار الكتاب المقدس عبارة: “هكذا تكلم الرب…”، أو “كلمة الرب التي صارت إليَّ”.
إذا الوحي في المسيحية، ليس معناه، أن الله أملى على كُتَّاب أسفار الكتاب المقدس، ما يكتبونه، لكن كلًّا من هؤلاء الكُتاب، كتب بأسلوبه، وفقًا للغته وقتها، ومستواه التعليمي والثقافي، أو حتى السياق الحضاري الذي كان يعيش فيه، لكن في هذا كله، كان الكاتب مَسوقًا -أي منقادًا بروح الله- في كتابته.
وهذا تحديدا ما قاله وأكَّد عليه الرسول بطرس، أحد تلاميذ المسيح، في إحدى رسائله، التي ذكرناها أعلاه، إذا كُتَّاب أسفار الكتاب المقدس، بعهديه: القديم والجديد، عبَّروا عن الإعلانات التي تلقوها من الله، بألفاظ من رصيد مخزونهم اللفظي والُّلغوي، بما يتناسب مع لغة الجمهور المتلقي.
نقطة أخرى غاية في الأهمية، هي أنَّ الكتاب المقدس، يحكي ويسرد، قصة تعامل الله مع البشر، منذ خلق العالم، مرورا بسقوط الإنسان في الخطية، وعصيانه، وصولا لخلاص الله للإنسان، من خلال تجسُّد السيد المسيح، الله الظاهر في الجسد.
ورغم تعدُّد الكتَّاب، واللغات، والأزمنة، والنُّطُق الجغرافية لكل كاتبٍ، فإن قصة الكتاب المقدس، أتت في توافق وتناغم؛ لأن المصدر واحد، هو الله الخالق الحي الواحد الأحد.
نُبذة سريعة عن أسفار الكتاب المقدس؟
يحتوي الكتاب المقدس على 66 سفرًا، وكلمة سفر تعني “كتاب”، وتنقسم الأسفارُ إلى: عهد قديم (39 سفرًا)، وعهد جديد (27 سفرًا).
يضم العهد القديم أسفار التوراة، وأسفارًا تاريخية، وأسفار الأنبياء، وأسفارًا أدبية وشِعرية، وكُتب العهد القديم بعدة لغات منها العبرية والآرامية.
أما العهد الجديد؛ فيحكي قصة حياة السيد المسيح، بما في ذلك ميلاده العذراوي، ومُعجزَاته، وقصة الصلب، والقيامة، والصعود، ويضمُّ سفر يسمى أعمال الرسل، الذي يحكي نشأة الكنيسة الأولى، ومجموعة أسفار هي عبارة عن رسائل من تلاميذ المسيح ورسله للكنائس الناشئة، ثم سفر أخير يسمى سفر “الرؤيا”، وكُتِب العهد الجديد باليونانية.
السمة العامة لهذه الأسفار، أو الكتب المتنوعة، أنها تُنسب لأشخاص؛ أنبياء أو رُسُل. كَتب هذه الأسفار 40 كاتبًا، من خلفيات ثقافية ومِهَن مختلفة، ومن مناطق جغرافية متباينة، على مدى 1500 عامٍ في ظروف تاريخية متغيرة.
مفاهيم خاطئة عن الوحي
الوحي في المسيحية ليس إملائيًّا أو تنزيلا: إنَّما نتاج مشترك بين الله، و”الكاتب/ أداة الوحي”.
الوحي في المسيحية ليس مرتبطا بمواقف معينة: تُنزَّل فيها آيات من قِبل الله؛ لحل مُشكلاتٍ ما تواجه الأنبياء كتبة الوحي، بل هو رسالة الله إلي البشر، التي تحكي خطة وطريق الله الوحيد للخلاص والفداء.
الوحي في المسيحية ليس لإرضاء البشر أو تنفيذ رغباتهم: بل هو الدستور الإلهي الكامل، الذي يحوي وصاياه الرب الطاهرة المقدسة، وأفكاره السامية نحو الجنس البشري.
كُتاب الوحي في المسيحية ليسوا معصومين من الخطأ.
الوحي في المسيحية ليس هدفه السرد التفصيلي للوقائع والأحداث التاريخية: بل توصيل رسالة محبة الله للبشر، عبر تاريخ تعاملاته مع شعبه، والتي تتوافق مع الاكتشافات التاريخية، التي ذكرها، ولا زال يذكرها، المؤرخون، وعلماء الآثار.
الوحي في المسيحية لا يلغي شخصية وعقل وفكر الإنسان، عن طريق تحديد بديهيات تعرفها الفطرة البشرية، وتطورها دائما، وفقا للتطور الفكري والحضاري والعلمي والثقافي، فلا تعلمنا كلمة الله، كيف نأكل ونشرب ونلبس مثلا، لكن تعطينا أحيانا العديد من الوصايا والأفكار، التي تساعدنا في حياتنا العملية، لكن هذا ليس الهدف الأساس؛ إنما الهدف الأسمى، ليس دنيويا، أو ماديا ملموسا، بل هو إعطاؤنا فكر الله، وتجديد أذهاننا، وتغيير قلوبنا، وكشف خطة ومشيئة الله للإنسان.
خلاصة عن مفهوم الوحي في الإيمان المسيحي
• الوحي في المسيحية هو “أنفاس الله” أو “نفخة الله”.
• لكن هذا لا يعني إطلاقا أن الله أنزله تنزيلا.
• بل اختار أشخاصا لهم علاقة روحية معه، لينطقوا ويسجلوا ما يريده الله.
• مستخدما ثقافاتهم وأفكارهم ولغتهم وعاداتهم بل وظروفهم الشخصية.
• لكن من دون أي إلغاءٍ لشخصياتهم.
• إذا “الكتاب المقدس” هو وحي الله المعصوم: لفظا ومعنى.
• وهو منتج إلهي بشري مشترك بين الله الإنسان.
• وقد سيطر الرب، وهيمن، بروحه على كُتاب الوحي.
• وعصمهم من الخطأ أثناء الكتابة؛ ليكتبوا ما يريده الله في رسالته للبشر.
بقلم: مينا نبيل