أسرار صناعة المخطوطات القديمة
Roma

أسرار صناعة المخطوطات القديمة
في مقالتنا السابقة التي حَمَلَت عنوان “كنوزٌ من الماضي تضيء الحاضر!” تتبَّعنا المسار التاريخي للمخطوطات الكتابية.
والآن، حان الوقت لنتعمَّق أكثر، ونفهم طبيعتها المادية.
إنَّ تقديرنا لهذه الكنوز يزداد عندما نكتشف البراعة والإتقان في صُنعها. لم تكن الكتابة في العصور القديمة مهمةً سهلة،
بل كانت تتطلَّب معرفةً عميقةً بالمواد الطبيعية، وتقنيات معالجتها. في هذه المقالة، سنغوص في عالم صناعة المخطوطات،
مستكشفين أسرار ورق البردي، وتقنيات إعداد الرقوق من جلود الحيوانات، مرورًا بظاهرة “الباليمبسست” (Palimpsest) العجيبة،
التي حوَّلت المخطوطة الواحدة إلى كتابٍ متعدِّد الطبقات.
المحتوي
ورق البردي: هدية النيل الهشَّة
كان ورق البرديِّ المادة الأكثر شيوعًا للكتابة في العالم القديم، وتُعَدُّ المخطوطات البردية للعهد الجديد، التي يبلغ عددها حوالي 134 مخطوطة،
أقدم الشواهد النصِّية التي نمتلكها. لم تكن عملية صُنع هذا الورق بسيطة، بل كانت حرفةً دقيقة؛ حيث كان يتم تقطيع ساق نبات البردي إلى شرائح،
ثم تُرتَّب في طبقتين متعامدتين، وتُضغط معًا وتُترك لتجفَّ. فتَلتصق الشرائح بفضل الصمغ الطبيعي في النبات، لتُشكِّل صفحةً جاهزة للكتابة.
وعلى الرغم من أهميته التاريخية، إلا أنَّ ورق البردي كان له عيوبه، فهو مادةٌ هشَّة وسريعة العطب، تتأثر بالرطوبة وتتفتَّت مع مرور الزمن؛
لهذا لم ينجُ منها إلا ما حُفِظ في المناخات الصحراوية الجافة.
الرقوق والجلود: مادة تتحمّل الزمن
مع تزايُد الحاجة لمادةٍ أكثر متانة، ظهر “الرَّقُّ” (Parchment) كبديلٍ مثالي. الرِّقاق هي جلود حيوانات (غالبًا العجول أو الأغنام)
خضعت لمعالجةٍ معقّدة لتُصبِح صالحة للكتابة. كانت العملية تبدأ بسلخ الجلد وتنظيفه، ثم نقعه في الماء والجير لإزالة الشعر.
بعد ذلك، يُشَدُّ الجلد بقوَّة على إطارٍ خشبيٍّ ويُترك ليجف، مع كشطه وتنعيمه حتى يصبح أملس.
وقبل الكتابة، كان الناسخ غالبًا ما يقوم بتسطير الصفحة لضمان استقامة الكتابة. كانت هذه المادة باهظة الثمن، لكنها تميَّزت بمتانتها الفائقة؛
مما سَمَح للمخطوطات المكتوبة عليها، مثل المخطوطة السينائية والفاتيكانية، بالبقاء في حالةٍ ممتازة لقرونٍ طويلة.
فنُّ الطبقات (Palimpsest)
نظرًا للتكلفة الباهظة للرقوق، لجأ النُّسَّاخ أحيانًا إلى حيلةٍ تُعرف اليوم باسم “باليمبسست” (Palimpsest). عندما يصبح نصٌّ ما قديمًا،
كانوا يقومون بكشط أو محو الحبر الأصلي، ثم يعيدون استخدام الصفحة لكتابة نصٍّ جديد فوقه. وبهذا، تصبح المخطوطة حاملةً لنصَّين أو أكثر،
نصٍّ ظاهر وآخر خفيٍّ تحته. ومن أشهر الأمثلة “المجلد الأفرايميّ”، حيث كُتبت أعمال القديس أفرايم السرياني فوق نصٍّ أقدم للكتاب المقدس.
واليوم، بفضل التقنيات الحديثة، أصبح بإمكان العلماء قراءة هذه النصوص “الشبحية” الممحوة وكشف أسرارها.
جمال الخط ودقّة الناسخ
لم تكن صناعة المخطوطات مجرَّد عملية تقنية، بل كانت فنًّا راقيًا يتجلَّى في جمال الخطوط ودقَّة التفاصيل.
استخدم النُّسَّاخ الأوائل نوعين رئيسيين من الخط: الأول هو “الخط الكبير المنفصل” (Majuscule)، وتُكتب فيه الحروف بشكلٍ كبير ومنفصل.
أما النوع الثاني فهو “الخط الصغير المتصل” (Minuscule)، والذي ظهر لاحقًا، وتتميز حروفه بصِغَر حجمها واتصالها؛ مما سمح بنسخ النصوص بسرعةٍ أكبر.
إنَّ النظر إلى صفحةٍ من “المجلد الإسكندري” يكشف لنا عن المهارة الفائقة للنُّسَّاخ، وقدرتهم على تحويل كل صفحةٍ إلى لوحةٍ فنية.
خاتمة
إنَّ استعراض فنون صناعة المخطوطات القديمة يأخذنا إلى عالمٍ من الصبر والإبداع. من سيقان البردي الهشَّة إلى الرقوق الجلدية المتينة،
ومن النصوص الممحوة التي عادت للحياة، إلى جمال الخطوط التي زيَّنت الصفحات، نكتشف أنَّ كل مخطوطةٍ هي أكثر من مجرَّد نصٍّ؛
إنها قطعةٌ أثرية فريدة تُجسِّد تفاني أجيالٍ لا حصر لها في سبيل حفظ الكلمة ونقلها. وبفضل جهودهم، لا يزال بإمكاننا اليوم أن نتَّصل بهذا التراث العظيم.
إعداد/ مينا نبيل
المرجع: مصداقية الكتاب”أحجام المخطوطات”حكمت قشوع حلقة4