حكاية القُرب الإلهي عبر العصور

Roma
حكاية القُرب الإلهي عبر العصور

حكاية القُرب الإلهي عبر العصور

   مقدمة

منذ بداية التاريخ والإنسان يبحث عن الله، وفي المقابل نَجد الله يقترب من الإنسان بطرق متنوِّعة ومُعَزِّيَة.
فالقِصَّة التي يكشفها لنا الكتاب المقدَّس ليست عن إنسانٍ يصعد إلى الله، بل عن إلهٍ يَنزل ليكون قريبًا من الإنسان.
إنَّ هذه هي الحكاية الكبرى التي تربط كل صفحات الكتاب، ألا وهي: أنَّ مقاصد الله في القُرب من البشر لا تفشل أبدًا. ومن جَنَّة عدن حتّى السماء الجديدة،

يظلُّ القُرب الإلهي هو الثابت الوحيد في عالمٍ مليء بالتغيُّرات.

الوعد الأوّل في لحظة السقوط

بدأت الحكاية بقرارٍ إلهيٍّ حُرٍّ، صادرٍ من مَحبَّة فائقة، بخلق الإنسان ومنحه سلطانًا على الخليقة. ومع أنَّ الله كان يعرف مُسبقًا نتائج هذا القرار،

إلَّا أنَّه أراد علاقة مبنيَّة على حرية الاختيار. وعندما سقط آدم، لم تسقط معه مَحبَّة الله. ففي قلب جَنَّة عدن، وعند لحظة السقوط،

أعطى الله الوعد الأوَّل بالخلاص عن طريق نسل المرأة، أي الرَّب يسوع المسيح.

صحيحٌ أنَّه كان لا بُدَّ من العقاب، فطُرِد آدم من الجَنّة، لكن المُعزِّي أنَّ الله لم يتركه وحده، بل سار مع نسله جيلًا بعد جيل:

مع شيث، ثم نوح، ثم إبراهيم وإسحق ويعقوب ويوسف، مؤكِّدًا أنَّ خطَّته في القُرب لم تتوقَّف بسبب الخطيَّة.

خيمة وهيكل: شوق الله للسُّكنى

تجلَّى هذا الشوق الإلهي بصورة ملموسة بعد خروج شعب إسرائيل من مصر. فالله الذي سمع صراخ شعبه لم يخلِّصهم ليتركهم،

بل ليقيم بينهم عهدًا. ومن أعظم علامات هذا القُرب أنَّه أعطى موسى نموذج خيمة الاجتماع.
لم تكن الخيمة مكانًا للعبادة فقط، بل إعلانًا أنَّ الله يريد أن يسكن وسط شعبه. ومن داخل الخيمة دعا الله موسى، مُعلنًا قربه الحقيقي.

وعندما حلَّ الهيكل مكان الخيمة، ملأ مجد الرَّب بيت سليمان، استمرارًا لنفس المقصد: أن يكون الله حاضرًا مع شعبه.

صوت الأنبياء: كلمة الله قريبة

لم يكن القُرب الإلهي محصورًا في الخيمة أو الهيكل فقط، بل أيضًا في الكلمة التي أعلنها الله بواسطة أنبيائه.
فكل نبي كان صوته شاهدًا على رغبة الله أن يوجِّه شعبه ويذكِّرهم بعهده. لقد كان الله حاضرًا معهم من خلال كلماته الحيّة، إذ يقول الكتاب:

«قَرِيبٌ هُوَ ٱلرَّبُّ مِنَ ٱلْمُنْكَسِرِي ٱلْقَلْبِ، وَيُخَلِّصُ ٱلْمُنْسَحِقِي ٱلرُّوحِ» (مزمور ٣٤: ١٨). وهكذا أكَّد الله مرارًا، عبر أصوات الأنبياء، أن قُربه ليس فكرةً بعيدة،

بل حقيقة ملموسة تُثبِّت الإيمان وتمنح الرجاء.

تجسُّد الكلمة: ذروة الاقتراب

بلغت الحكاية ذروتها في العهد الجديد عندما يقول يوحنّا في إصحاح 1 عدد 14: «وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا وَحَلَّ بَيْنَنَا». والكلمة اليونانية “حلَّ بيننا” تعني حرفيًّا

“نصب خيمته بيننا”، في إشارة واضحة إلى خيمة الاجتماع.

لقد جاء يسوع المسيح ليقدِّم الله في صورة يمكن أن تُرى وتُلمس. صار القُرب الإلهي شخصًا حيًّا، هو يسوع المسيح، الذي هو ملء النعمة والحق،

وبذلك أعلن أن مقاصد الله في الفداء والقُرب لا يمكن أن تفشل أبدًا.

من الروح القدس إلى السماء الجديدة

لم تنتهِ الحكاية بصعود المسيح، بل استمرَّت مع الروح القدس الذي يسكن في قلوب المؤمنين ويقودهم كل يوم.
وجود الروح القدس فينا اليوم هو عربون حضور الله المستمر مهما اشتدت الضغوط والأزمات. والختام سيكون في المشهد المجيد الذي يصفه سفر الرؤيا:

«هُوَذَا مَسْكَنُ اللهِ مَعَ النَّاسِ، وَهُوَ سَيَسْكُنُ مَعَهُمْ.. وَسَيَمْسَحُ اللهُ كُلَّ دَمْعَةٍ مِنْ عُيُونِهِمْ» (رؤيا ٢١: ٣-٤).

حينها سيأتي الرب ثانيةً لنعيش معه إلى الأبد.

خاتمة

هذه هي القِصَّة من البداية إلى النهاية: ما فُقِد في عدن يستعيده الله في السماء الجديدة. إدراكنا أنَّنا جزء من هذه الحكاية العظيمة يمنحنا عزاءً وتشجيعًا أكيدًا.

ففي كل أزمة، تبقى الحقيقة الثابتة: مقاصد الله لا تفشل، ومقصده الأعظم أن يكون قريبًا من الإنسان، الآن وإلى الأبد.

الكاتب/ القس هاني ظريف – راعي الكنيسة الإنجيلية بالملك الصالح

 

مواضيع تهمك
شارك اصدقائك