إدارة الوقت من منظور كتابي

Roma
إدارة الوقت من منظور كتابي

إدارة الوقت من منظور كتابي

الوقت عطية ثمينة يمنحنا الرب لنا كل يوم. لكن وسط مشاغل الحياة وسرعتها، كثيرًا ما نجد أنفسنا متعبين ومشوشين، فلا نستفيد من هذه العطية كما يجب.

إدارة الوقت ليست مجرد مهارة عصرية، بل هي مسؤولية روحية عميقة. إنها دعوة لنُدرك قيمة كل لحظة، ونعيشها لمجد الله ولنمونا الروحي.

فكيف نواجه تحديات عصرنا، ونتمسك بالمنظور الكتابي، مستلهمين ذلك من نماذج إيمانية سبقتنا؟

أولًا: تحديات تُهدر الوقت

في عالم اليوم، برزت تحديات كبرى تهدد قدرتنا على إدارة أوقاتنا. من أبرزها إدمان وسائل التواصل الاجتماعي. فكثيرون يقضون ساعات طويلة بين الشاشات،

من لحظة الاستيقاظ وحتى قبل النوم، دون أن يشعروا بمرور الوقت. هذا الإدمان يسرق التركيز،

ويجعلنا نهمل أولوياتنا الحقيقية، فنغرق في عالم افتراضي بينما تتراكم علينا المسؤوليات الواقعية.
إلى جانب ذلك، يظهر تحدي تكدس وازدياد الالتزامات. فكثيرون يعملون في أكثر من وظيفة، وينخرطون في أنشطة متعددة، ويستجيبون لكل طلب يُوجَّه إليهم دون أن يجرؤوا على قول “لا”. هذه الرغبة في إرضاء الجميع، أو الخوف من ضياع الفرص، تجعل الإنسان مثقلًا بالأعباء، فاقدًا للتوازن، فيشعر بالإرهاق النفسي والجسدي،

بل ويفقد أحيانًا التواصل العميق مع الله وأحبائه.

ثانيًا: الوقت من منظور الكتاب المقدس

من منظور الكتاب المقدس، الوقت ليس مجرد ساعات ودقائق تمضي، بل هو عطية إلهية منظمة.

يُعلن لنا سفر الجامعة: “لِكُلِّ شَيْءٍ زَمَانٌ، وَلِكُلِّ أَمْرٍ تَحْتَ السَّمَاوَاتِ وَقْتٌ” (جامعة ٣: ١) .

هذه الكلمات تُذكرنا بأن الله هو سيد الزمن، وأنه وضع لكل مرحلة وحدث في حياتنا غاية وموعدًا محددًا. إدراك هذه الحقيقة يمنح قلوبنا راحة ويُضفي على حياتنا معنى عميقًا، إذ يجعلنا نرى الوقت كأمانة نُحاسَب عليها أمام الله، لا كشيء نفعل به ما نشاء.
وبناء على ذلك، يدعونا الكتاب المقدس إلى افتداء الوقت. فقد أوصى الرسول بولس: “مُفْتَدِينَ الْوَقْتَ لأَنَّ الأَيَّامَ شِرِّيرَةٌ” (أفسس ٥: ١٦).

الافتداء يعني استغلال الوقت بحكمة، وإنقاذه من الضياع في ما هو بلا قيمة. في وسط أيام مليئة بالمغريات والانحرافات، يُطالبنا الله أن نعيش بوعي،

فنُبعد عن حياتنا ما يُشتت أو يُهدر، ونُركز على ما يُقربنا إليه ويُبني نفوسنا.

ثالثًا: خطوات عملية لافتداء الوقت

لكي يتحول المنظور الكتابي إلى أسلوب حياة عملي، نحن بحاجة إلى خطوات واضحة. أول هذه الخطوات هي التنظيم والتخطيط. فالرب يسوع علَّمنا قائلًا:

“مَنْ مِنْكُمْ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَبْنِيَ بُرْجًا، لَا يَجْلِسُ أَوَّلًا وَيَحْسِبُ النَّفَقَةَ، هَلْ عِنْدَهُ مَا يَلْزَمُ لِكَمَالِهِ؟” (لوقا ١٤: ٢٨).

هذا المبدأ لا يقتصر على المشروعات الكبيرة، بل يشمل حياتنا اليومية أيضًا. حين نبدأ يومنا أو أسبوعنا بخطة واضحة،

ونرتب ما يجب إنجازه، نصبح أكثر قدرة على تخصيص الوقت الصحيح لكل مهمة، فنتفادى الفوضى والتشتت.
إلى جانب التخطيط، لا بد من تحديد الأولويات. فكثيرًا ما ننشغل بما هو عاجل لكنه غير مهم، أو بما يفرضه الآخرون علينا. لكن كمؤمنين،

ينبغي أن نرتب حياتنا بحسب مشيئة الله، لا بحسب ضغوط العصر. علينا أن نسأل أنفسنا: ما الذي يُقربني من الله؟ ما هي الرسالة التي يريدني أن أعيشها؟

ما هي الاحتياجات الحقيقية لعائلتي وكنيستي؟ عندما تكون لنا أهداف واضحة، يصبح من الأسهل أن نرفض ما لا يتماشى مع رؤيتنا،

وأن نُركز وقتنا وجهدنا على ما هو أكثر أهمية وقيمة.

رابعًا: نماذج كتابية ملهمة

الكتاب المقدس يقدم لنا أمثلة حية لأشخاص عرفوا كيف يستثمرون وقتهم لحكمة ومجد الله. الرسول بولس مثال بارز، فقد عاش لهدف واحد واضح: أن يُعلن المسيح للعالم. ورغم السجون والاضطهادات، لم يتوقف عن الخدمة، بل استغل كل فرصة للكرازة والتعليم وتأسيس الكنائس. حياته تُظهر لنا أن الهدف الواضح هو مفتاح لاستثمار الوقت وعدم السماح له بالضياع.
أما النموذج الأكمل فهو الرب يسوع المسيح نفسه. فقد عاش سنوات قليلة على الأرض، لكنها كانت مليئة بالثمر الأبدي. في ثلاث سنوات فقط من خدمته العلنية، علَّم الجموع، شفى المرضى، أقام الموتى، درب التلاميذ، وقضى أوقاتًا في الصلاة والخلوة. لم يُشتته شيء عن رسالته، بل عاش مركزًا تمامًا على مشيئة الآب. يسوع يُعلمنا أن التركيز على ما هو جوهري يجعل حياتنا أكثر امتلاءً وقيمة، حتى لو كان العمر قصيرًا.
خاتمة

إدارة الوقت ليست مجرد ترتيب للمواعيد أو إنجاز للمهام، بل هي أمانة روحية نُقدِّم عنها حسابًا أمام الله.
فالعالم من حولنا مليء بما يُهدر أوقاتنا، لكن كلمة الله تدعونا أن نفتدي كل لحظة، وأن نعيش بحكمة، مركزين على ما يُرضي الله. بالتنظيم، وتحديد الأولويات، وبالتأمل في النماذج الكتابية العظيمة، نستطيع أن نحيا حياة ذات معنى، مُكرسين وقتنا كله لمجد الرب. فلنطلب منه أن يُعلمنا أن نُحصي أيامنا، فنكون وكلاء أمناء على هذه العطية الثمينة، عاملين بحسب قوله: “مُفْتَدِينَ الْوَقْتَ لأَنَّ الأَيَّامَ شِرِّيرَةٌ” (أفسس ٥: ١٦). آمين.

الكاتب/ مينا نبيل

مواضيع تهمك
شارك اصدقائك