كنوزٌ من الماضي تضيء الحاضر!
Roma

كنوزٌ من الماضي تضيء الحاضر!
عندما نُمسك اليومَ بنسخةٍ من الكتاب المقدَّس، قد لا ندرك التاريخَ والجهدَ البشريَّ الهائل الذي يقف خلف كل كلمةٍ فيها.
إنَّ قصَّة وصول هذه النصوص إلينا هي قصَّةٌ مكتوبةٌ بالحبر على أوراق البردي وجلود الحيوانات، ومحفوظةٌ في مخطوطاتٍ تُعَدُّ اليومَ كنوزًا أثريةً لا تُقدَّر بثمن.
هذه المخطوطات ليست مجرَّد أوعية للنص، بل هي شواهد مادية على رحلة الإيمان عبر القرون.
في هذه المقالة، سننطلق في رحلةٍ استكشافية لعالم المخطوطات المدهش؛ لنتعرَّف على أحجامها،
ونقتفي أثرها من أديرة الشرق وصولًا إلى مكتبات العالم الكبرى، ونسلِّط الضوء على تحديات حِفْظها عبر الزمان.
-
المحتوي
بين القُصاصة والعملاق
أول ما يثير الدهشة في عالم المخطوطات هو التباينُ الشديد في أحجامها، والذي يعكس تنوُّع استخداماتها وأهميتها.
فمن ناحية، وُجدت مخطوطاتٌ صغيرة جدًّا بحجم كفِّ اليد، يُمكن للمرء أن يضعها في جيبه. وعلى النقيض تمامًا، تقف أمامنا تحفٌ فنية ضخمة.
ولعلَّ المثال الأبرز هو “كودكس جيجاس” (Codex Gigas)، أو “الكتاب العملاق”. هذه المخطوطة التي تعود للقرن الثالث عشر، هي أكبر مخطوطةٍ من العصور
الوسطى، حيث يبلغ طولها 92 سنتيمترًا، ووزنها يقارب 75 كيلوغرامًا، وقد صُنعت من جلود ما يقارب 160 حمارًا أو عجلًا.
وفي مقابل هذا العملاق، نجد أصغر قُصاصة مخطوطة للعهد الجديد، وهي التي تحمل الرقم (P113)، وتحتوي فقط على ثلاث آياتٍ من رسالة رومية،
ومحفوظة اليومَ في جامعة أكسفورد. هذا يُظهِر لنا أنَّ قيمة المخطوطة لا تكمن دائمًا في حجمها، بل في قِدَمِها وأصالتها.
-
أديرة الشرق: مهد المخطوطات
لم تظهر هذه الكنوز من فراغ، بل وُلِدت في قلب الشرق، في الأديرة المسيحية التي كانت مراكز إشعاعٍ ثقافيٍّ وروحي. قام النُّسَّاخ في هذه الأديرة بتدوين ونَسْخ النصوص المقدَّسة بدقَّة وصبر. ومن أهمِّ هذه المراكز يبرز دير “سانت كاترين” في سيناء بمصر، الذي خرجت منه “المخطوطة السينائية” الثمينة.
كما أن مناطق أخرى مثل الإسكندرية وقيصرية وأنطاكية وأورشليم وحتى لبنان، كانت لها إسهاماتٌ كبيرة.
ولم يكن دور الطبيعة أقلَّ أهمية، فالبيئة الصحراوية الجافة في أماكن مثل “البهنسة” بمصر، وفَّرت ظروفًا مثالية لحفظ أوراق البردي والرقوق من التلف لآلاف السنين؛
مما جعلها مصدرًا مستمرًّا للاكتشافات الأثرية المذهلة.
ما وصلت إليه المخطوطات اليوم
على الرغم من أنَّ الشرق كان مهد هذه المخطوطات، إلا أنَّ جزءًا كبيرًا منها شقَّ طريقه ليستقرَّ في الغرب.
اليوم، تتوزَّع أعدادٌ هائلة من أهم المخطوطات على كبرى المكتبات في أوروبا وأمريكا. فمكتبة الفاتيكان تحتضن “المخطوطة الفاتيكانية
“، وتفتخر المكتبة البريطانية في لندن بكنوزٍ لا تُقدَّر قيمتها.
كما تضمُّ المكتبة الوطنية في فرنسا، ومكتبة بودليان في جامعة أكسفورد، ومكتبة تشستر بيتي في إيرلندا، ومكتبات ألمانيا الحكومية،
مجموعاتٍ ضخمةً تُمثّل مرجعًا أساسيًّا للباحثين. هذه الرحلة الطويلة للمخطوطات من الشرق إلى الغرب هي قصَّةٌ بحد ذاتها،
تحمل في طيَّاتها فصولًا من الاكتشاف والدراسة، وأحيانًا من الضياع والسرقة.
تحدِّيات الحفظ والوصول
إنَّ رحلة المخطوطات لم تكن سهلةً، كذلك الوصول إليها اليوم. يوجد تباينٌ واضح بين سهولة دراستها في المؤسسات الغربية، والصعوبات التي قد يواجهها الباحثون في بعض أديرة الشرق. هذا الحرص الشديد في الشرق له ما يبرِّره؛ فهو نابعٌ من خوفٍ مشروع على هذه الكنوز من التلف أو سوء الاستخدام أو حتى السرقة.
فالتاريخ يحكي قصصًا عن مخطوطاتٍ خرجت من أديرتها ولم تعد أبدًا، مثل مخطوطةٍ من دير البلمند في لبنان وُجدت لاحقًا في برلين. هذا الخوف التاريخيُّ خلق حالة من الحذر الشديد، ويعكس شعورًا عميقًا بالمسؤولية تجاه إرثٍ روحيٍّ وثقافيٍّ لا يمكن تعويضه.
- خاتمة
وهكذا، نرى أنَّ قصَّة المخطوطات هي ملحمةٌ تاريخية عظيمة، تسافر من أديرة الشرق المقدَّسة إلى قاعات المكتبات العالمية. إنها شهادةٌ حيَّة على الإصرار البشري في حفظ الكلمة، ونقلها عبر الأجيال. لكنَّ هذه القصَّة لا تكتمل دون فهم جانبها المادي. فالسؤال الذي يطرح نفسه الآن: على أيِّ شيءٍ كُتبت هذه النصوص الخالدة؟ وما هي التقنيات التي استخدمها الأقدمون؟ هذا ما سنستكشفه في مقالتنا التالية.
إعداد/ مينا نبيل
المرجع: مصداقية الكتاب”أحجام المخطوطات”حكمت قشوع حلقة4
التصنيف: (موحدون أم مشركون – صحة الكتاب)