جميلة
william
جميلة
كان يجلس بجوار جميلة كما اعتاد كل يوم، وكانت هي هادئة تنظر إليه في محبة، لقد أحبته كما أحبها، نعم كان يشعر بذلك ويسعد به، ويحس أن ذلك الحب يشبعه، يطفئ ظمأه، لقد كان أسعد أوقاته عندما كان يجلس بجانبها يربت على جسدها الناعم ويتكلم معها، ويراها وهي تصغي له دون أن تُعلق على ما يقول، كانت دائمًا تتركه يعبر لها عما يجيش بداخله من مشاعر دون أن تشعر بالملل أو تعلن عن استيائها منه.
نعم، لقد وجد في جميلة نعمّ الصديقة؛ فهي الصديقة الوحيدة التي تستمع إليه وتؤنس وحدته، فهي تعيش معه منذ أكثر من خمس سنوات، ولا يطمئن لأحد غيرها، فهي التي تستطيع أن تفهم كلامه الذي لا يمكن أن يهم أحد سواه، كما أنها تشاركه اهتماماته، أو هو كان يظن ذلك، لذلك كانت جديرة بحق أن تكون صديقته الوحيدة.
في ذلك اليوم كان يشعر بأنه ليس على ما يرام، كان يشعر أنه مخنوق، الدموع حبيسة في عينيه، لقد مر بكثير من الأزمات، في عمله خسر كثير من صداقاته في الآونة الأخيرة، لذلك كان يكلمها وبداخله شعور بالإحباط الشديد، بينما يداه تعبثان في شعرها الجميل وهي مستسلمة له في تلذذ وتنظر إليه في عذوبة ودلال.
كان يقول لها:
– والآن، ما رأيك يا جميلة؟ ألا ترين أنني فعلت حسنًا عندما قررت عدم الخروج اليوم؟
– ………………………………
– لقد مللت هؤلاء الناس، أخرج معهم كل مساء، الحديث ذاته، والجلسة ذاتها، ويجب أن أستمع وأشارك، لقد سئمت من كل هذا… إنه ضياع للوقت.
– ……………………………
– كما أنهم لا يفهمونني.
ويبتسم في أسى ويستطرد:
– أو ربما أنا الذي لم أعتد على التعبير بمشاعري لأحد سواكِ.
– ……………………………..
– أجل هذه هي حقيقتي، لم أعد أستطيع أن أعبر لأحد عما أشعر به سواء كان هذا الشعور حزنًا أو فرحًا، لماذا؟ لا أعرف، هل تعرفين الجميلة؟
– …………………………………
– ربما لأنني فقدت ثقتي في الآخرين؛ فالجميع لا يسعون إليك إلا إذا أرادوا منك شيئًا، إنهم يريدون مني أن أدفع ثمن محبتهم وصداقتهم، ولا يعرفون أن الصداقة تفقد قيمتها إذا كانت بمقابل مادي، كلهم يطمعون في أموالي، بينما أنتِ.. تعلمين أني غني ولا تطلبين شيئًا، وعند حدوث هزة مالية، كما هو الحال الآن، لا يتغير تعاملك معي؛ لأنك تعطيني بلا مقابل، أرأيت أنك أفضل صديقة على الإطلاق يا جميلة؟
نظرت إليه جميلة بعيونها الناعسة، وفي تثاقل قامت ووضعت رأسها على كف يده تمسح وجهها معبرة عن محبتها له، بينما هو في انفعال ظاهر راح يكمل حديثه:
– كما أنك الوحيدة التي تعرفين مشاكلي وعيوبي دون أن تتفوهي بكلمة واحدة… أما هم… إذا ما عرفوا عيبًا في شخص ما صار سلاحًا ضده… ويكون ذلك العيب حديثهم وشغلهم الشاغل… لماذا يا جميلة؟ لماذا لا يفكر الإنسان إلا في عيوب الآخرين ولا ينظر إلى نفسه أبدًا؟
جميلة تنظر إليه.. ولكنها لا ترد… وهو بدوره ينظر إليها ولا تزال يداه تعبثان بوجهها، ويفترض أنها ردت عليه فيقول:
– أنا؟ نعم… أنا أعرف عيوبي جيدًا… أعرفها لأنني أبقى معك وأتحدث إليك، فأنتِ مرآتي التي أرى نفسي فيها، وعندما أحدثك، أتعرف على عيوبي أكثر، وإذا حدثتك، أثق في أنكِ لن تُشهري بي لأحد ولن تذليني يومًا بها.
– …………………………….
– كما أنك يا جميلة جعلتيني أتعود على الصمت، لذلك ثقل لساني… فلم يعد طليقًا يتكلم ويتكلم، فأجد نفسي صامتًا في مجالس الآخرين.
– ……………………………..
– هم يعتقدونني خبيثًا، أحتفظ بما أنوي فعله لنفسي… هم يعتقدون أنني أعد نفسي للمعارك والمقالب في صمتي هذا، ولا يعرفون أن صمتي هذا عجزًا… عجزًا على مواجهتهم… فأنا لا أستطيع أن أتكلم… فكيف لي بمواجهتهم، لا أعرف… هل لكِ أن تخبريني يا جميلة؟
– ……………………………….
– ألا تخبريني يا جميلة؟
– ………………………………
– أتبخلين يا جميلة بالرد وأنت صديقتي الوحيدة؟ أريد أن أعرف كيف أتغلب على فشلي… على وحدتي… على عيوبي التي أرفضها.
– ………………………………
– تكلمي يا جميلة… لقد فقدت سلامي، وفارقني نومي وهدوئي المصطنع… لقد بدأ يخرج من هذا الهدوء حمم بركان ثائر… ألا تعطيني بعض الراحة؟
– …………………………..
أخذ ينظر إلى صديقته جميلة في توسل… ولكنها رفضت أن تتكلم… وكيف لها أن تعطي ما لا تملكه، لم يستطع أن يصمد، لقد واجه الكثير ولكنه الآن لا يستطيع، وخاصة أن أحدًا لا يراه غير جميلة، وجميلة لا يمكن أن تتكلم، إنها لم تتكلم أبدًا، فترك نفسه للبكاء… وأخذ يربت على ظهر جميلة، بينما عيونه تدمع.
لقد عرف الآن… عرف أنه يحتاج إلى صديق آخر… صديق يعطي الطمأنينة للنفس… يعطي الحب… وهذا كله لن توفره له الجميلة جميلة، لقد كانت الصديق الوفي طوال خمس سنوات كاملة، أما الآن… فهو يحتاج إلى شخص آخر يستطيع أن يحكي ويستمع إليه… يخرج له ما في قلبه… ويجد له حلولًا لمشكلاته… إنه الآن يحتاج لشخص ينزع عنه قلقه ويحطم قيوده وعبوديته… لم تعد جميلة تكفيه.
لذلك هو يبحث… ولا شك أنه سوف يجد… سوف يجد الصديق الألزق من الأخ… كيف؟
هو لا يعرف الآن… لكنه سيظل يبحث، والذي يبحث بأمانة يجد، حمل صديقته جميلة ووضعها على المنضدة، وأخذ يتسلى في إطعامها، وبينما هي تهز ذيلها سرورًا وفرحًا، كانت عيونه هو لا تزال تدمع
المصدر: كتاب السباق الأخير
للكاتب : عماد حنا