تستطيع أن تغادر.. الله معك
william
تستطيع أن تغادر.. الله معك
كان يشعر بكثير من التوتر، على الرغم من ثقته بنفسه التي تكاد تصل إلى حد الغرور، وعلى الرغم من إمكانياته التي قاربت من الكمال في تصرفاته، إلا أنه كان يخشى ألا يحصل على تلك الوظيفة التي طالما حلم بمثلها، كان يسير في الشارع ويشرب العصير لكي يرطب على نفسه إذ كان الجو شديد الحرارة، وأيضًا لكي يخفف من توتره الداخلي، وفجأة، تقف أمامه سيارة أجنبية فاخرة وحديثة، وصوت فتاة شابة تحدثه:
– من فضلك سيدي، هل تتحدث الإنجليزية؟
نظر إليها، ورد بإنجليزية سليمة:
– بالتأكيد أنستي، كيف أستطيع أن أساعدك؟
كان قد انتهى من العصير وألقى بالعلبة الورقية على الأرض والتفت إليها باهتمامـ، نظرت الفتاة إليه ثم إلى علبة العصير وقالت:
– أريد أن أعرف كيف أذهب إلى فندق “جي سي”، هل تعرفه؟
– بالتأكيد سيدتي.
وأخذ يصف لها أبسط الطرق للوصول إلى الفندق، وأصغت له بانتباه ثم شكرته، وبعد أن أدارت سيارتها في اتجاه الفندق قالت:
– احترس سيدي… لقد وقعت منك علبة العصير.
ابتسم وقال:
– لقد انتهت… إنها فارغة.
نظرت إلى العلبة الملقاة، ولم تستسلم بل قالت:
– ألا ترى أنها قذارة أن ترمي المهملات في الشارع وصندوق القمامة بالقرب منك لا يتجاوز عدة أمتار؟!!
فقال لها:
– سيدتي، إنني لست قذرًا، لقد تلقيت دراستي في أوروبا، وما كنت أجرؤ أن أفعل ذلك في أي بلد منها، ولكنك ترين أن القذارة تملأ المكان، نحن بلد متخلف سيدتي، ومن الطبيعي بالنسبة لهذا المكان أن أُلقي المهملات على الأرض، هذا الفعل طبيعي جدًا في هذا المكان، ليتك تنظرين حولك لترين كم المهملات الملقاة في الأرض فتفهمين قصدي.
وابتسم بسخرية واسترسل:
– إنني إذا فعلت غير ذلك يمكن أن يتهمني الناس بالجنون!!
لوت الفتاة شفتيها بعدم اقتناع وقالت بسرعة:
– شكرًا لأنك ساعدتني لمعرفة الطريق، يندر أن أجد هنا من هو يتكلم الإنجليزية بطلاقة مثلك، شكرًا لك.
– ولك الشكر سيدتي.
أدارت محرك سيارتها وسرعان ما تحركت، أما هو فكان يتابعها بعينيه… ويقول لنفسه: “أنها تذهب بالقرب من المكان الذي أريد أن أذهب إليه”.
ولام الفتى نفسه أنه خجل أن يطلب منها أن تأخذه معها، رغم أن طريقه نفس طريقها، وسرعان ما تناسى هذا الأمر وراح يسير في فخر وهو يفكر في مدحها للغته الإنجليزية الراقية، وهو يتذكر أن واحدة من شروط الوظيفة التي يريد الحصول عليها هو إتقان اللغة الإنجليزية… فزادت خطواته ثباتًا وهو يتجه إلى تلك الشركة التي تعلن عن حاجتها إلى موظف ليعمل لديها بأجر خيالي، حيث ازدادت ثقته بنفسه بعد مدح تلك الفتاة للغته الإنجليزية.
* * *
لم يكن المكان مزدحمًا؛ فهذه الوظيفة الشاغرة لها متطلبات صعبة يندر أن تكون موجودة في عدد كبير من الناس، وكان ينتظر دوره في الدخول للمقابلة الشخصية وهو يتطلع إلى المتقدمين للوظيفة، ويحاول أن يعقد مقارنة بينه وبينهم، ويستمع إلى أحاديثهم مع بعضهم دون أن يحاول الدخول في الحديث، ولكنه كان يحاول أن يقيَّمهم، وكلما تقدم الوقت، ازدادت ثقته في نفسه بأنه سيحصل على تلك الوظيفة.
كان يهمه كثيرًا الحصول على الوظيفة؛ فهو راجع من إنجلترا من أسابيع بسيطة، بعد دراسة شاقة حتى حصل على ماجستير في برمجة الكمبيوتر، لقد تعب كثيرًا وصام كثيرًا وعمل في كل الأعمال الحقيرة لكي يوفر ثمن دراسته لكي يستطيع أن يحصل على تلك الشهادة، وعندما بدأ يجني ثمار هذه الشهادة بأن يعمل في مكان محترم في إنجلترا بأجر خرافي، استغنوا عنه بسبب أحداث سبتمبر التي أخافت كل أبناء الغرب من العرب، فاضطر للرجوع، ولولا تلك الظروف الصعبة لما رجع إلى بلده، بل لكان استمر في إنجلترا يعمل؛ إذ أن في الخارج يقدرون كثيرًا هذه التخصصات النادرة، على خلاف بلاده العربية التي كان دائمًا يتهمها بالتخلف، ولكنه ها هو يرجع مضطرًا وناقمًا، ليعمل ستة أشهر في قهوة إنترنت، حتى قرأ هذا الإعلان عن تلك الشركة الأجنبية التي تعيد له طموحه في الحصول على مستقبل جميل وهو في بلده، ولكن شروط هذه الشركة غاية في القسوة، وكان ينظر إلى الخارجين من المقابلة الشخصية فيقرأ على وجوههم خيبة الأمل، فلا يستطيع أن يداري فرحته إذ أن هناك أمل في أن ينجح هو.
لا يظن أن أحد المتقدمين قد حصل على شهادة تعادل شهادته، ولا يظن أن أحدًا يملك خبرته في مجال البرمجة، وأيضًا لا يظن أن أحدًا له كفاءة لغوية ممتازة، وأيضًا مظهره الأنيق على الرغم من ضيق ذات اليد، ووسامته وشبابه وحُسن حديثه… ماذا يعوزّه بعد لكي ينجح؟
يعتدل في جلسته بثقة، وهو يرى الشباب يدخلون مبتسمون ويخرجون محمري الوجه وعلامات الإخفاق بادية عليهم، يبدو أن الوظيفة ستكون من نصيبه.
* * *
ويسمع اسمه، ليقف سريعًا ويعدل من هندامه، ويحمل أوراقه ويدخل في منتهى الجدية، ليجد ثلاث رجال كبار في السن يجلسون أمامه في صالون عادي، يقول له أصغرهم بلغة إنجليزية:
– أهلًا وسهلًا سيدي… من فضلك تفضل بالجلوس.
فيرد بلغة سليمة:
– أهلًا سيدي… سعيد بمقابلتكم.
ويجلس.
ويبدأ الامتحان العسير في أدق تفاصيل المهنة، الرجال لا يتكلمون إلا باللغة الإنجليزية، وهو يرد ويحاججهم ، إنه يعرف كل شيء ويتقن كل شيء، وفي أثناء المقابلة، يشعر صاحبنا أنه على وشك الحصول على الوظيفة؛ الوجوه مرتاحة والأسئلة بدأت تتحول إلى أسئلة حميمة، ويشعر أن الرجال الثلاثة قد أصبحوا يستأنسون له، لقد طالت المقابلة جدًا عن أي مقابلة سابقة، حتى أن أحد الرجال الثلاثة طلب النسكافيه، لتأتي فتاة شابة وهي تحمل أقداح النسكافيه للجميع، ويلتفت صاحبنا إليها، ليفاجأ أنها هي نفسها الفتاة التي سألته على الفندق، إنها كانت تريد هذه الشركة إذًا… يبدو إنها ابنة أحد هؤلاء الرجال… ازدادت ثقته بنفسه وقال لها:
– مرحبًا أنستي.. هل تتذكريني؟
نظرت إليه وقالت:
– أعتقد أننا تقابلنا من قبل… ألست من سألته على الفندق؟
– أجل.
– أهلاً بك.
وجلست لتستمع إلى بقية الحوار، وصاحبنا أخذ نفسًا عميقًا وقد أحس أن الوظيفة في جيبه، أخيرًا سوف تبتسم له الأيام بعد طول عناء.
* * *
وانتهت المقابلة… ونظر الرجال الثلاث إلى بعضهم البعض وهم يعبثون بأوراق صاحبنا، وقال المتحدث:
– على ما يبدو سيدي أنك أفضل من تقدم إلى تلك الوظيفة، نحن في العادة نرفض الغير لائق تلقائيًا دون انتظار، أما الذي لا نرفضه، نأخذ كل أوراقه كي ندرسها ونقارنها في التصفية النهائية لنختار الأفضل، وأنا إلى الآن أظن أنك أفضل الكل على وجه الإطلاق، ولكني لابد أن أتقابل مع بقية المنتظرين، ولكني أستطيع أن أعدك بالوظيفة.
اتسعت ابتسامة صاحبنا وهو يقول له:
– هذا شرف عظيم لي أن أكون ضمن فريق العمل معكم.
ولكن فجأة قالت الفتاة:
– لحظة سيدي، أنا لم أقل كلمتي بعد، وأنا صاحبة الشركة ويهمني جدًا من يعمل معي.
نظر مبهوتًا وهو يرى تلك الفتاة الصغيرة تعلن أنها صاحبة هذا المشروع الضخم، ولم يتكلم منتظرًا كلامها، أما هي فقالت بسرعة:
– سيدي… على الرغم أننا نهتم كثيرًا بالخبرة والعلم واللغة، ولكن هؤلاء الخبراء لم يروا ما رأيته أنا، وهو كافِ بأن يلغي فكرة الوظيفة تمامًا
قال صاحبنا بانزعاج:
– ما الذي فعلته أنستي؟
– لقد ألقيت بالقاذورات أمامي على الأرض، وقلت لي بالحرف الواحد أنها ليست طباعك ولكنها شيمة أهل البلد، ومن هذا عرفت أمرًا هامًا، أنك يا سيدي لا مبدأ لك، تسير وفقًا للظروف ووفقًا للمتغيرات التي حولك، فإذا رأيت مكانًا قذرًا صرت أنت كذلك، ما الذي يضمن لي أنك إذا انضممت لشركتي ورأيت أحدًا يسرق ألا تفعل مثله؟ أو تبيع أسرار شركتي للمنافسين إذا وجدت شيمة أهل المكان كذلك؟ عزيزي، إني أريد في شركتي مَنْ يكون ثابتًا في مبادئه، غير محتقر للبلد التي يعيش فيها، حتى ولو كان متخلفًا على حد قولك، سيدي مع كل خبرتك التي تصل إلى حد الكمال، لا أستطيع أبدًا أن أعين في المنصب الذي أريد رجلًا مثلك، تستطيع أن تغادر الآن، الله معك.
المصدر: كتاب السباق الأخير
للكاتب :عماد حنا