ما وراء الحِبْر
Roma

ما وراء الحِبْر: فُنونُ الكِتابةِ القديمة
بعد أن استعرضنا التطوُّرَ الماديَّ للكتاب المقدس، في مقالةٍ حَمَلت عنوان “رِحلة المخطوطة: مِنَ الدَّرَجِ إلى الكِتاب” نغوص الآن أعمق في فنِّ وصناعة المخطوطات نفسها، حيث نلمس الجهد البشريَّ والمهارة الفَنِّيَّةَ للناسخ. إِنَّ كل مخطوطةٍ هي نتاج منظومةٍ متكاملةٍ من المهارات والأدوات والمعايير التي تعكس تَفَانِيًا عَظِيمًا،
من جَمَالِيَّاتِ الخطوط التي كُتبت بها، إلى طبيعة الحبر الذي حفظ الكلمات عبر القرون، وصولًا إلى النظام الدقيق الذي اتبعه العلماء لتصنيف آلاف الوثائق.
يتناول هذا المقال أنواع الخطوط المستخدمة، وعلم “الباليوغرافيا” الذي يفكُّ شفرة تاريخها، وأدوات الناسخ البسيطة ولكن العبقريَّة، والمنهجيَّة العِلْمِيَّةَ المُتَّبعة في تنظيم هذا التراث الإنسانيِّ العظيم.
المحتوي
لغة القلم: بين الخط الكبير والخط الصغير
تُميَّز مخطوطات العهد الجديد اليونانِيَّةُ بنوعين رئيسيين من الخطوط، يعكس كلٌّ منهما حقبةً وأسلوبًا مُخْتَلِفَيْنِ:
1. الخط الكبير المنفصل (Uncial/Majuscule): هو الخط الأقدم والأكثر رسميَّةً، استُخدم في القرون الأولى. تتميز حروفه بكِبَر حجمها واستقلاليتها عن بعضها؛
مِمَّا يمنح الصفحة مظهرًا مَهِيبًا وَوَاضِحًا.
لم يكن هذا الخط مجرد وسيلةٍ للكتابة، بل كان تَعْبِيرًا عن التوقير والاحترام للنَّص المكتوب، كما يتجلَّى في جمال المخطوطة الفاتيكانِيَّةِ التي تعود للقرن الرابع.
2. الخط الصغير المتصل (Minuscule/Cursive): ظهر هذا الخط وانتشر بشكلٍ واسعٍ ابتداءً من القرن التاسع الميلاديِّ. نشأ من الحاجة إلى زيادة سرعة النسخ، وتتميز حروفه بصِغر حجمها وارتباطها ببعضها؛ مِمَّا يجعله أكثر عمليَّةً للتدوين السريع، وإنتاج عددٍ أكبر من النُّسَخ في وقتٍ أقلّ؛ لتلبية الطلب المتزايد على الكتب.
الباليوغرافيا: عِلْمُ تَأْرِيخِ الخُطُوط
إِنَّ دراسة تطوُّر هذه الخطوط هي جوهر علم “الباليوغرافيا”. يُمَكِّنُ هذا العلم المتخصص الخبراء من تحديد تاريخٍ تَقْرِيبِيٍّ للمخطوطات التي لا تحمل تاريخًا صَرِيحًا.
يتمُّ ذلك من خلال المقارنة الدقيقة بين أسلوب الكتابة وشكل الحروف في المخطوطة المجهولة، مع مخطوطاتٍ أخرى مؤرَّخةٍ بشكلٍ قاطعٍ.
يسمح هذا التحليل بتحديد فترةٍ زَمَنِيَّةٍ محددةٍ (بهامش دقةٍ يصل إلى نحو 50 عامًا)
كانت فيها هذه الأنماط من الكتابة شائعةً؛ مِمَّا يفتح نافذةً ثَمِينَةً على الماضي، ويساعد في بناء تسلسلٍ زَمَنِيٍّ موثوقٍ لتطوُّر النَّص.
أدوات النَّاسخ: القلم والحبر والألوان
كانت أدوات الناسخ بسيطةً لكنها فعَّالة. فقد كان القلم يُصنع غالبًا من قصبةٍ (“كلاموس” باليونانِيَّةِ) تُبرى وتُسَنُّ لتصبح صالحةً للكتابة. أمَّا الحبر،
فكان صنعه فَنًّا كِيمْيَائِيًّا بحد ذاته. فالحبر المعدنيُّ الدائم كان يُنتَج غالبًا من سحق “عفص البلوط” واستخلاص حمض التانيك منه، والذي
يتفاعل مع أملاح الحديد لإنتاج لونٍ داكنٍ وثابتٍ. جديرٌ بالذكر أنَّ “عفص البلوط” هو مادَّة تُستخرَج من أوراق أو ثمار شجرة البلوط، وتُستخدَم في صناعة الحبر والدباغة.
ولم تقتصر الكتابة على اللون الأسود، بل كانت المخطوطات الفاخرة تُزيَّن بالألوان. فقد كانت ممارسة “التَّحْمِير” (Rubrication) شائعةً،
حيث تُكتب العناوين أو الأحرف الأولى من الفقرات باللون الأحمر (من الكلمة اللاتينِيَّةِ ruber أي أحمر) لتنظيم النص وتسهيل القراءة. كما استُخدِم الذهب والفضة في المخطوطات الثمينة؛ للدلالة على قدسيَّة بعض الكلمات، ككلام المسيح.
منهجيَّة تنظيم آلاف المخطوطات
للتعامل مع الكم الهائل من المخطوطات المكتشفة (أكثر من 5800)، وَضَعَ العلماء نظام تصنيفٍ دَقِيقًا يقسمها إلى أربع فئاتٍ رئيسيَّةٍ.
هذا التنظيم المنهجيُّ لا غنى عنه للباحثين، فهو يتيح لهم فهم طبيعة وأهمية أي مخطوطةٍ على الفور. مجرد معرفة ما إذا كانت الوثيقة بَرْدِيَّةً مبكرةً (تحمل الرمز P)
أو مُجَلَّدًا رَسْمِيًّا بخطٍّ كبيرٍ أو كتاب قراءاتٍ كَنَسِيَّةٍ يوفر سِيَاقًا حَاسِمًا لدراستها وتقييمها. والفئات هي:
1. البرديات (حوالي 134 مخطوطةٍ).
2. مخطوطات الخط الكبير (حوالي 320 مخطوطةً).
3. مخطوطات الخط الصغير (حوالي 2900 مخطوطةٍ).
4. كتب القراءات الكَنَسِيَّةِ (حوالي 2483 مخطوطةً).
خاتمة
إِنَّ عالم المخطوطات ليس مجرد مجموعةٍ من الوثائق القديمة، بل هو شهادةٌ حَيَّةٌ على نظامٍ دقيقٍ من الفنِّ والعِلم والتفاني.
فَمِن تطوُّر الخطوط الذي يعكس الحاجات المتغيرة للعصور، إلى الكيمياء البسيطة لصناعة الحبر، وصولًا إلى التصنيف المنهجيِّ الذي ينظم هذا الإرث،
كل جانبٍ يكشف عن الجهد الهائل الذي بُذل للحفاظ على هذه النصوص. وبفضل هذا النظام المتكامل، الذي يربط بين الخصائص الماديَّةِ والتحليل العِلْمِيِّ،
يمكننا اليوم أن ندرس ونفهم هذا الكنز التاريخيَّ بعمقٍ ودقةٍ لا مثيل لهما.
إعداد: مينا نبيل
المصدر: مصداقية الكتاب”أنواع المخطوطات”حكمت قشوع حلقة 5