النعمة التي غيَّرت التاريخ

Roma
النعمة التي غيَّرت التاريخ

النعمة التي غيَّرت التاريخ

كثيرون يعرفون بولس الرسول كأعظم المبشرين في تاريخ الكنيسة، الذي جال يبشر بالانجيل، وكتب رسائل صارت جزءا من العهد الجديد. لكن القليل يدرك أن هذا الرجل مرَّ برحلةٍ عميقة مليئة بالأحداث قبل أن يبدأ خدمته. معرفة خلفيته تكشف لنا قوة نعمة الله، وتدعونا لنتأمل كيف يستطيع الرب أن يغير المسار مهما كان الماضي مُظلمًا.

  الجذور التي شكَّلت شخصية شاول

وُلِد شاول في مدينة طرسوس حوالي السنة الأولى للميلاد. كان يهوديًّا من سبط بنيامين، لكنه أيضًا تمتَّع بالجنسية الرومانية، وهذا ما أعطاه امتيازاتٍ خاصَّةً في العالم القديم. نشأ على التقاليد اليهودية منذ طفولته، فحفظ التوراة، وتمرَّن على قراءة الاسفار المقدسة في سِنٍّ مبكرة.

في سن الثالثة عشرة ذهب إلى اورشليم ليتعلم عند رجلي غمالائيل، أحد أعظم المعلمين اليهود. هناك درس الشريعة بعمق، واعتبر فريسيًّا غيورًا لله. لم يكتف بالمعرفة الدينية فقط، بل كان مثقفا يعرف العبرية والآرامية واليونانية، ويعي تنوع الشعوب من رومانيين ويونانيين ويهود وبرابرة.

كما تعلم حرفة صناعة الخيام، وهي مهنة كانت تميز أهل كيليكية. بهذا الجمع بين الثقافة الواسعة والحرفة العملية، صار شاول شابا مهيأ للمسؤوليات الكبيرة، لكنه في الوقت ذاته كان متشددًا ليهوديته حتى التعصب.

 عداوته للكنيسة الناشئة

حين بدأت الكنيسة في أورشليم، رأى شاول فيها تهديدًا مباشرًا للأيمان اليهودي. لذلك وقف ضدها بعنف، وكان حاضرًا عند رجم استفانوس، أول الشهداء. يقول الكتاب:

وَأَخْرَجُوهُ خَارِجَ الْمَدِينَةِ وَرَجَمُوهُ، وَالشُّهُودُ خَلَعُوا ثِيَابَهُمْ عِنْدَ رِجْلَيْ شَابّ يُقَالُ لَهُ شَاوُلُ”  أعمال ٧: ٥٨

لم يكتفِ شاول بالموافقة على قتل استفانوس، بل صار يطارد المؤمنين من مدينةٍ إلى أخرى، يدخل البيوت ويجر الرجال والنساء إلى السجون. وقد وصف نفسه لاحقًا قائلًا:

مِنْ جِهَةِ الْغَيْرَةِ مُضْطَهِدٌ لِلْكَنِيسَةِ”  فيلبي ٣: ٦

هذا التشدد أكسبه إعجاب رؤساء الكهنة، حتى إنه طلب منهم رسائل توصية ليذهب إلى دمشق ويقبض على المسيحيين هناك. بدا وكأنه عدو لا يلين للإنجيل، ومرادف للرعب عند المؤمنين. لكن الله كان يخطط لشيء مختلف تمامًا.

   اللقاء الذي غيَّر التاريخ

في الطريق إلى دمشق، حيث كان شاول ذاهبا ليضطهد المؤمنين، حدثت المفاجأة الكبرى.

إذ يقول الكتاب: “فَفِيمَا هُوَ سَائِرٌ اذَا نُورٌ قَدْ بَرَقَ حَوْلَهُ مِنَ السَّمَاءِ. فَسَقَطَ عَلَى الارْضِ،

وَسَمِعَ صَوْتًا قَائِلا لَهُ: شَاوُلُ شَاوُلُ لِمَاذَا تَضْطَهِدُنِي؟اعمال ٩: ٣-٤

في تلك اللحظة، واجه شاول يسوع المسيح المقام. لم يعد الأمر مجرد تعليم أو جدال ديني، بل لقاء شخصي مع الرب نفسه. أصيب بالعمى ثلاثة أيام، وصام وصلى في بيت يهوذا بزقاق المستقيم في دمشق.

ثم أرسلت العناية الإلهية رجلًا يدعى حنانيا، وضع يديه عليه فعاد إليه بصره،

واعتمد، وامتلأ بالروح القدس. 

بدأ شاول، الذي كان مُضطهِدًا، يكرز في المجامع أن يسوع هو ابن الله. لقد تحوَّل العدو إلى رسول، والمُضطهِد إلى كارز، والمقاوم إلى باني للكنيسة.

 دروس تطبيقية لحياتنا

قصة شاول تعلمنا أن الماضي مهما كان مظلمًا لا يمنع عمل الله. كثيرون يظنون أن اخطاءهم أو خطاياهم تجعلهم بعيدين عن نعمة الرب، لكن الحقيقة أن محبة الله أقوى من كل ماض. كما كتب بولس نفسه لاحقا: “إِنَّهُ أَيْضًا مَكْتُوبٌ: أَنَا أُبِيدُ حِكْمَةَ الْحُكَمَاءِ، وَأَرْفُضُ فَهْمَ الْفُهَمَاءِ١ كورنثوس ١: ١٩

كذلك نرى أن الله يستخدم حتى الثقافة والقدرات التي اكتسبها الإنسان قبل الايمان. شاول المثقف والمتعدد اللغات صار بولس المبشر بين الأمم. وحرفته كصانع خيام أعانته أن يكون مُستقلًّا ماديًّا أثناء رحلاته. هذا يشجعنا أن نضع مواهبنا في يد الرب ليستخدمها.

وأخيرًا، ندرك أن اللقاء الشخصي مع المسيح هو ما يغير الحياة حقًّا. ليست المعرفة وحدها كافية، ولا التقاليد تكفي، لكن حين يلتقي الإنسان بالرب، تتبدل وجهته ويصير إنسانًا جديدًا.

    خاتمة

رحلته من شاول إلى بولس ليست مجرد سيرة تاريخية، بل شهادة حيَّة على قوة الانجيل. لقد غيَّرت نعمة الله رجلًا متعصبًا مُضطهِدًا إلى رسول محب، وكَتبت فصولًا جديدة في تاريخ الكنيسة. واليوم ما زال الرب قادرًا أن يغير حياتنا كما غير حياة بولس، لأن الإنجيل هو

قُوَّةُ اللهِ لِلْخَلاَصِ لِكُلِّ مَنْ يُؤْمِنُ(رومية ١: ١٦). 

فلنفتح قلوبنا للنعمة، ولنسلم طرقنا لله، فهو القادر أن يحول الضعف إلى قوة، واليأس إلى رجاء، والماضي المثقل إلى شهادة مجيدة لمجد اسمه.

الكاتب/ الشيخ فيكتور فهمي عويضة، شيخ الكنيسة الإنجيليَّة بالقُلَلِي

 

مواضيع تهمك
شارك اصدقائك