مُواجهَةٌ وَمُؤامَرَة

Roma
مُواجهَةٌ وَمُؤامَرَة

 مُواجهَةٌ وَمُؤامَرَة: بُولُس فِي أُورُشَلِيمَ!

تَصِلُ رحلةُ الرسول بولس الثالثة إلى نهايتها، لكنَّ فصولَ الجهادِ الأعظم لم تكن قد بدأت بعد.
حاملًا على كتفيه ثِقَل كنائس الأمم ومحبة الإخوة وتقدماتهم، يصل بُولُس إلى أورشليم في زيارته الخامسة والأخيرة. كانت المدينة المُقَدَّسَة

تموج بالاحتفالات والجموع، لكن كانت تيَّارات العداء والغضب بانتظار الرَّسول الذي كسر حواجز الانغلاق اليهوديّ.
هذه المقالة ترصد الأيَّام العصيبة التي قضاها بولس في أورشليم، حيث تحوَّل الاستقبال الحافل إلى مُواجَهَةٍ عنيفة،

وتصاعدت الأحداث لتصل إلى مُؤَامَرَةٍ دمويَّة، لم يكن الخلاص منها إلَّا بتدبيرٍ إلهيٍّ ساقه إلى المحطة التالية في رحلته نحو روما.

• استقبَالٌ حَافِلٌ وَمشَاكِل تُدبَّر

وصل بولس ورفقاؤه الثمانية، الذين كانوا يُمَثِّلون الكنائس التي أسَّسها، إلى أورشليم، فاستقبلهم الإخوة بفرحٍ عظيم. وفي اليوم التالي، توجَّهوا لزيارة يعقوب،

قائد الكنيسة، وبقية الشيوخ، حيث حدَّثهم بولس بكل ما فعله الله بين الأمم بواسطة خدمته،

وأخبرهم عن إيمان الآلاف في أفسس وكورنثوس وفيلبّي وغيرها من المدن التي كرز فيها.
رحَّب مسيحيُّو أورشليم بقدومهم وبهذه الأخبار المُفْرِحَة، كما سَمِعُوا بالتقدمات التي حملوها من كنائس أخائية ومكدونية. لكن،

سرعان ما ظهرت المشكلة، فقد كان هناك آلافٌ من المسيحيِّين من أصلٍ يهوديٍّ ما زالوا غيورين على الناموس،

وقد وصلت إليهم إشاعات بأنَّ بولس يُعَلِّم اليهود في بلاد الشتات أن يرتَدُّوا عن موسى.
ولتهدئة هذه المخاوف، قَبِلَ بولس نصيحة يعقوب بأن يتكفَّل بنفقة أربعة رجال عليهم نذر،

وأن يتطهَّر معهم ويدخل الهيكل؛ ليُثْبِتَ للجميع أنَّه يسلك هو نفسه حافظًا للناموس.

• شَرارةُ الغَضَب تَنْدَلِع

عندما دخل بولس الهيكل لإيفاء النذر، كانت هذه الخطوة، التي قُصِدَ بها السلام، هي نفسها التي أشعلت نار الفتنة.

فقد رآه بعض اليهود المُتَزَمِّتِين الذين أتوا من آسيا، والذين كانوا يحملون ضغينةً قديمةً ضدَّه،

فهاجوا وهيَّجوا الجمع وصرخوا بأنَّ هذا هو الرجل الذي يُعَلِّم ضدَّ الشعب والناموس والهيكل، وادَّعوا كذبًا أنَّه أدخل يونانيِّين إلى الهيكل ودنَّس الموضع المُقَدَّس.

في لحظاتٍ، تحوَّل المشهد إلى فوضى عارمة، وقبضوا على بولس وجرُّوه خارج الهيكل، وأغلقوا الأبواب، وانهالوا عليه ضربًا وكادوا يقتلونه.

وصلت الأخبار إلى أمير الكتيبة الرومانيَّة، ليسياس، فأسرع وأخذ معه جنودًا وقوَّاد مئات، وما إن رأى اليهودُ الجيشَ حتَّى توقَّفوا عن ضرب بولس.

أمر الأمير بتقييد بولس بسلسلتين، وعندما لم يستطع أن يعرف سبب الاضطراب بسبب صراخ الجمع، أمر بأن يُذْهَبَ به إلى المعسكر. وهناك،

استأذن بولس الأمير أن يخاطب الشعب، ووقف على الدرج وبدأ يدافع عن نفسه باللغة العبرانيَّة، ساردًا لهم قصَّة اهتدائه ودعوته.

• حِكْمَةٌ إِلَهِيَّةٌ وَمُؤَامَرَةٌ لِلقَتْل

لم يُجْدِ دفاعُ بولس الأول نفعًا، بل ازداد هياج الشعب مطالبين بقتله. فأمر الأمير بأن يُفْحَصَ بالجلدات ليعترف بذنبه.

وهنا، استخدم بولس حقَّه كمواطنٍ رومانيّ، مُحتجًّا على جلده وهو غير مقضيٍّ عليه؛

ممَّا أوقف عمليَّة التعذيب فورًا. في اليوم التالي، وفي محاولة لفهم حقيقة الأمر، أمر ليسياس بأن يجتمع مجمع السنهدريم،

وأحضر بولس أمامه. وقف بولس أمام المجمع ونظر إليهم، وما أن بدأ حديثه حتَّى أمر حنانيا رئيس الكهنة بضربه على فمه.
وهنا، أظهر بولس حكمةً إلهيَّة، فإذ أدرك أنَّ المجمع مُنْقَسِمٌ بين فَرِّيسِيِّين يؤمنون بالقيامة وصدُّوقيِّين ينكرونها،

صرخ قائلًا: “أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ ٱلْإِخْوَةُ، أَنَا فَرِّيسِيٌّ ٱبْنُ فَرِّيسِيٍّ. عَلَى رَجَاءِ قِيَامَةِ ٱلْأَمْوَاتِ أَنَا أُحَاكَمُ” (أعمال الرسل 23: 6).

كانت هذه الكلمة كافية لتُحْدِثَ انشقاقًا ومنازعةً شديدة بين الفريقين، حتَّى خاف الأمير أن يُمَزَّقَ بولس،

فأمر الجنود أن يختطفوه من وسطهم ويعيدوه إلى المعسكر.
وفي تلك الليلة، وفي أحلك الظروف، ظهر له الربُّ نفسه في رؤيا مُشَجِّعَة

وقال: “ثِقْ يَا بُولُسُ! لِأَنَّكَ كَمَا شَهِدْتَ بِمَا لِي فِي أُورُشَلِيمَ، هَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ تَشْهَدَ فِي رُومِيَةَ أَيْضًا” (أعمال 23: 11).

لم تنتهِ المؤامرات عند هذا الحد، بل اتَّفق أكثر من أربعين يهوديًّا على قتله، لكنَّ ابن أخت بولس سمع بالمكيدة وأبلغ خاله، الذي بدوره أبلغ الأمير ليسياس.
عندئذٍ، تصرَّف الأمير بحسمٍ، وجهَّز قوَّةً عسكريَّةً ضخمة من مئتي عسكريّ وسبعين فارسًا ومئتي رامح،

وأرسل بولس ليلًا تحت حراسةٍ مُشَدَّدَة إلى قيصريَّة، إلى فيلكس الوالي.

• خاتمة

وهكذا، أُسْدِلَ الستار على الفصل الأخير من خدمة بولس في أورشليم. المدينة التي أحبَّها وبكى عليها،

هي نفسها التي رفضته وحاولت قتله. لقد انتهت المواجهة في شوارعها وساحات هيكلها،

لكنَّها فتحت الباب على مصراعيه لفصلٍ جديدٍ من المحاكمات والشهادة أمام الملوك والولاة. لقد كانت مُؤَامَرَة البشر سببًا في تحقيق وعد الله،

فخرج بولس من أورشليم ليس هاربًا، بل مُسَاقًا بتدبيرٍ إلهيٍّ إلى قيصريَّة، مُقْتَرِبًا خطوة أخرى نحو روما التي كان عليه أن يشهد فيها للرب يسوع.

الكاتب/ الشيخ فيكتور فهمي، شيخ الكنيسة الإنجيليَّة بالقُللي

 

مواضيع تهمك
شارك اصدقائك