سأسير معك فى هذا الطريق
william
سأسير معك في هذا الطريق
أجل، إنه هو، لقد ظننت أن أخباره انتهت منذ مدة، منذ تلك الحادثة المشؤومة، لقد ظننت أنني لن أسمع عنه مرة أخرى بعد أن انتقل من قمة شهرته إلى قاع النسيان، لكن ها هي صورته تعود مرة أخرى للظهور على صفحات الجرائد يعلوها ذلك العنوان الغريب: “طريق الانتصار”.
شرعت أقرأ السطور: “إلى كل شخص يدّعي أنه أقل من الآخرين، إلى كل شخص يقول إن الله ميز الآخرين عنه وأحبهم دونه بسبب إصابة أو عاهة أو فقدان أحد أطرافه، سارع بالاشتراك إلى هذا السباق، سباق الكراسي المتحركة، هذا السباق ليس هدفه معرفة من هو الفائز، أو من هو الذي سيصل أولًا إلى خط النهاية، ولكنه لإثبات ذاتك وقدرتك على أنك قادر أن تعيش مثل الآخرين، هذا السباق ينظمه بطل سباق السيارات السابق “جون ألكسندر”، ومكان السباق هو حديقة منزله.
جون ألكسندر، إنه هكذا دائمًا، يريد أن تستحوذ أخباره على اهتمام الآخرين، دائمًا يحب الشهرة والأضواء.
عدت بذهني إلى الوراء، منذ ثلاث سنوات، في ذلك اليوم المشئوم، كان جون ينطلق بسيارته في السباق.. كان المتقدم دومًا، ولا يعرف الخوف طريقه إلى قلبه، مضى في السباق إلى المنحنى الأخير، جون يحتل المقدمة تليه سيارة تحاول أن تتخطاه، ولو على أشلائه.. لا زال جون في المقدمة.. دقائق قليلة وتعلن النتيجة ويفوز جون ويثبت أنه البطل، الأفضل دائمًا.
توقفت عن التفكير، كما لو كنت أحاول أن أعفي نفسي من اجترار ذكرى المشهد الأخير الذي أودى ببطولة جون كبطل عالمي في سباق السيارات، كانت الذكرى تؤلمني.. لقد صمم المتسابق الذي يليه أن يتخطاه في زاوية المنحنى، ولم ينجح في ذلك إلا بصدمة قوية أطاحت بسيارة جون بعيدًا عن الحلبة، لتهوي في المنحدر ثم تنفجر انفجارًا مدويًا.
أتذكر زيارتي الأولى له بالمستشفى، كان غائبًا عن الوعي، وقد بُترت إحدى ساقيه وتشوهت معالم وسامته.
ولكني لم أعاود زيارته، ربما بسبب انتقاله من المسكن المجاور لمنزلي إلى مدينة بعيدة، وربما لأنني تعودت أن أقابل شخصًا نشيطًا مبتسمًا ووسيمًا، وحتى اليوم وأنا أخشى مقابلته، ولكني حرصت على متابعة أخباره دون علمه، فعرفت أنه انتقل إلى مدينة ساحلية هو وخادمه العجوز، الذي كنت أتصل به كثيرًا دون أن أخبره عن اسمي لأعرف منه أخبار مخدومه.. ولكن ما أن توفي الخادم حتى انقطعت الأخبار عني.
حاولت أن أنساه وظننت أنني نجحت في ذلك، إلى أن رأيت صورته بالصحف مرة أخرى.. ترى ما سر عودته إلى الحياة العملية؟ كان خادمه يبلغني بأن جون يعمل في مشروع صغير ليشغل به وقته، ولكنه لم يخبرني عن نوعية ذلك المشروع.
طوال السنوات الماضية لم أرغب في مقابلته محاولًا نسيانه، ولكن الآن، هل سأقوى على رؤيته؟ هل سأتمكن من مواجهته؟ ترى ماذا سيفعل عندما يراني؟ أعتقد أنه لا يزال يكرهني، تُرى متى سيغفر لي؟ وهل خطيئتي تُغتفر؟ هل يسامح من تعمد تدمير حياته؟ هل يصفح عمن جعله أسيرًا لذلك الكرسي المتحرك البغيض؟
أجل، أنا الذي أزحته عن الطريق من أمامي لكي أحظى بتلك الشهرة الواسعة التي كان يتمتع بها وحده… ولكني انتزعت الفوز منه تلك المرة، وأصبحت البطل.
أغمضت عيني فراودني نفس الحلم الذي كان يؤرقني طيلة الثلاث السنوات الماضية.. سيارة مسرعة في طريقها للفوز، وسيارة أخرى تحاول اللحاق بها، تضربها من الخلف.. تفوز السيارة الثانية ويدوي انفجار الأولى عاليًا.. لا.. لا أريد الاسترسال في هذه الذكرى الأليمة.
ماذا دهاني؟.. ينتابني شوق جارف لرؤيته، وجدت نفسي أتجه إلى سيارتي وأتحرك بها إلى خارج المدينة.. كانت رغبتي في رؤية جون كبيرة، لست أدري لماذا ولا أدري ماذا سأقول؟.. لقد ظللت طوال الثلاث سنوات الماضية أخشى هذا اللقاء، فماذا دهاني وأنا أسعى اليوم إليه؟ تُرى ماذا سيفعل عندما يراني؟ هل سيطردني؟ ولم لا؟.. أم أنه سيأسرني بلطف محبته كما كان يفعل دائمًا؟ يكفيني من عذاب الضمير ما لقيته، هل سأستعذب برؤيته؟ تذكرت اللقاء الأول بيننا، كان قد أصبح نجمًا لامعًا وبطلًا شهيرًا، وكنت أنا في أول الطريق، أظهر لي حبًا ورعاية وتبناني في فريقه.. ومع ذلك لم أستطع أن أميل إليه، لم نتشاجر يومًا، ولكني لم أحبه.. كنت أحقد عليه وأحلم بتفوقي عليه، فلماذا يصفق له الجميع وأظل أنا في دائرة الظل؟
عدت بذاكرتي – ثانية- إلى يوم السباق المشهود، وفي ذلك اليوم طمأنني جون بقوله: “سيكون الانتصار حليفنا، سننتصر معًا” .
أجبته في نفسي: “بل سأنتصر وحدي، لن أكون تابعًا لك، سأطيح بك وأحقق الانتصار الذي يرفعني إلى الشهرة والمجد” .
ولكنني لم أحقق أي مجد؛ فبعد إصابة جون لا أعلم ماذا اعتراني، كنت كلما حاولت التقدم في طريق السباق ونظرت إلى المرآة لأجد سيارة من خلفي تحاول أن تتخطاني وتزيحني من الطريق، كنت أسمح لها أن تتخطاني وأصبح في المؤخرة.. لم أستطع الصمود مرة واحدة، وكانت النتيجة أنني اعتزلت هذه الرياضة دون أن أحقق أي نجاح، لقد كان شبح ما فعلته بجون يطاردني في كل مكان.
* * *
ثقلت قدماي عندما اقتربت من بيت جون، حديقة المنزل جميلة وواسعة، يخترقها طريقًا صغيرًا يدور حول البيت ومُقسم كما لو كان حلبة سباق صغيرة.. تقدمت فوجدت أن الطريق مُعد بالإشارات لسباق ما.. عادت الذكرى المشؤمة إلى ذاكرتي مرة أخرى.. سيارة سباق مسرعة وسيارة أخرى تضربها من الخلف، سيارة تفوز وأخرى تنفجر.
تراجعت متباطئًا.. كلا، لا يمكنني أن أواجه جون، أردت أن أهرب، فتحت الباب لأخرج، ولكني سمعت صوتًا رقيقًا يناديني باسمي، نظرت إلى مصدره.. كان هو.. لم يتغير كثيرًا، ابتسم وجهه حالما رآني، ولكنه لم يركض للقائي كعادته.. لم تنطفئ شعلة المحبة في قلبه، ولكنه كان أسير مقعده الذي حكمت أنا عليه به طيلة حياته.. تقدم بإصرار ويداه تعصران العجلات، دمعت عيناي، تقدم ببطء وسط الأزهار.. إنه يحبني.. واليوم لمس حبه قلبي.. لقد كنت فائزًا به، وأصبحت منكسرًا بدونه.
احتضنتني كلماته: “كنت أنتظرك، لقد طالت غيبتك كثيرًا” انحنيت على مقعده، تعانقنا كأحب الأصدقاء، أخفيت رأسي في صدره وبكيت، لقد غفر لي وانتصر علي مرة أخرى.. ولكني لن أعطي لنفسي فرصة لكي أنهزم، سأمشي معه في طريق الانتصار، سألني جون: “لماذا لم أعد أسمع أخبارك في حلبة السباق مرة أخرى؟”
نظرت إلى الطريق الصغير الذي يتوسط الحديقة، وأجبت جون وأنا أربت على كتفه: “لم أعد محتاجًا إلى ذلك، سأمشي معك في هذا الطريق، سننتصر سويًا في طريق الحب”.
المصدر: كتاب السباق الأخير
للكاتب :عماد حنا