تمثال الشرفة

william

تمثال…… الشرفة

خرج الأستاذ “سعيد” كعادته كل صباح حاملًا السلة التي يضع فيها أغراض المنزل والتي يشتريها من السوق يوميًا، وعندما نزل إلي الشارع، سمع صوت “فيروز” عاليًا منبعثًا من شرفة منزله، نظر إلى تلك الشرفة ليجده لا يزال جالسًا مكانه وناظرًا إليه في تحدي شديد، ولمس في نظراته أيضًا نظرات كراهية شديدة أيضًا، إنه ابنه الوحيد “سامي”، الذي أصبح هذا المكان هو مكانه المفضل لا يتركه طوال اليوم، لا يفعل شيئًا سوى النظر ببلاهة إلي المارة، والاستماع من خلال جهاز تسجيل إلى أغاني “فيروز” حتى ظن الجميع أن الأستاذ سعيد وضع تمثالًا في شرفته لتزيينها.
أخفض الأستاذ سعيد عيناه الضعيفتان بفعل السنين، والحسرة والألم يعتصرانه؛ إذ أنه لم يكن ينتظر أو يريد هذا المصير لابنه، وببطء يتحرك متجهًا إلى السوق، تاركًا خلفه صوت “فيروز” عاليًا.
***
والأستاذ “سعيد” رجل بالمعاش تخطي الستين من عمره بعدة سنوات، وكان قبلًا موظفًا كبيرًا بالتربية والتعليم، ومن قبلها كان معلمًا ناجحًا، كثيرًا ما يفتخر أنه ربى العديد من الأجيال الذين احتلوا مكانة كبيرة في المجتمع، له من الأولاد أربعة، ثلاث بنات كبار كن ناجحات في دراستهن، والآن صرن ناجحات في بيوتهن، إذ تزوجن جميعهن، وللأسف لم يعدن يزرن والدهن الأستاذ “سعيد” إلا نادرًا، متعللات بشتى أنواع الحجج، ولكن النتيجة النهائية أنهن اختفين تمامًا من حياته، وكلما زار هو أو زوجته إحداهن، أحس أنه غريب في بيت ابنته، فلا يجد من الكلام ما يقوله، فينسحب إلى بيته مكتفيًا بالراحة لإحساسه بأن ابنته مستقرة وتشعر بالسعادة مع زوجها، هذا عن البنات، ولكن من الذكور له ابن وحيد، وهو صديقنا “سامي” -تمثال الشرفة- والذي صار نقطة ضعفه الوحيدة، أو بالأحرى، شوكته الأساسية في الحياة.
يتجه الأستاذ “سعيد” إلى الخباز ليشتري منه الخبز وهو لا يزال شارد في أفكاره، ويتساءل لماذا أصبح ابنه هكذا، هو لم يقصر أبدًا معه، ولا يظن أن ابنه من المتخلفين عقليًا، بل هو طبيعي تمامًا، وقد وجد من العناية ما لم يجده الكثير من أترابه، فالأستاذ “سعيد” واحد من أبناء صعيد مصر، ويهتم كثيرًا أن يكون لديه الولد الذي يحمل اسمه، وعندما جاء الولد، كانت سعادته كبيرة حتى أنه أهمل اهتمامه بالبنات الثلاث وصب اهتمامه علي الولد، مما أدي إلى حنق البنات وعدم محبتهم للولد أو للبيت عامة، وبعد هذا يواجه هذا المصير الذي يراه في ابنه!! هذا كثير عليه ولا يعرف له سببًا.
وغاب عن الأستاذ “سعيد” أن الولد فطن لهذا الاهتمام الزائد عن الحد، فشعر أنه إنسان متميز، فانتهز الفرصة وبدأ يتمرد ويتدلل كثيرًا حتى تُلبى طلباته، في البداية كانت طلباته صغيره وعادية كطلبات أي طفل، ولكنه عندما رأى ضعف والديه أمامه بدأت طلباته تزداد تدريجيًا، وكان الوالدان رغم هذا يجتهدان على أن يلبيا كل طلبة يطلبها ابنهما “سامي” على حساب أي شيء، فهما يخافان على ولدهما خوفًا شديدًا.
ولكن من أي شيء كان الأستاذ سعيد والسيدة حرمه يخافان علي سامي؟!
كان الوالدان يخافان على الولد من أشياء ساذجة وبسيطة، ولكنها كافية أن تكبله في قيود شديدة، وأيضًا تمنعه من ممارسة ما يمارسه من في سنه، فمثلًا: منذ نعومة أظافره وهما يخافان عليه من الشمس، فالشمس كما نعرف في صعيد مصر شديدة الحرارة، لذلك إذا تجرأ “سامي” وخرج والشمس في كبد السماء فبالتأكيد سوف تصيبه الشمس بضربة قاسية قاضية، وبالتأكيد سوف تقضي عليه بالموت، وإذا تجرأ شخص ما واعترض على هذا السلوك وقال:
“كل الأولاد يتعرضون لهذه الشمس.”
يكون الرد هو:
“ولكن ابننا رقيق جدًا وضعيف، وهو الولد [الحيلة] على ثلاث بنات.”
وإذا فكر أحدهم أن يقترح على العائلة أن تتغلب على هذا الأمر بأن يضع [الحيلة] ببساطة شيئًا علي رأسه يقيه من حرارة الشمس، قالوا: “إن حرارة الشمس تخترق كل الأشياء.”
إذًا فما العمل ؟!
العمل الوحيد المناسب هو حماية الولد من تلك الشمس المميتة، لا يتعرض لها ولا يسير حيث وجودها، ومن حسن الحظ أن مدرسته الأبتدائية أمام البيت فلن يتعرض للشمس، وإلا لكان قد حُرم من التعليم.
ولكن، هل الشمس فقط هي مصدر خوفهما ؟!
كلا بالطبع، فكل العوامل الجوية الأخرى تصيب الأستاذ “سعيد” وزوجته بالهلع، فهو يخاف عليه من البرد القارص، فيذهب كل يوم إلى المدرسة لابسًا عدة سترات بعضها فوق بعض ليسير المسكين متعثرًا في ملابسه، ولا يخرج في المساء مطلقًا؛ لأننا جميعًا نعلم أنه في الليل تزداد البرودة، فهو لا يخرج لأي سبب كان، وإذا قلنا أن صعيد مصر لا يعرف البرد القارص، يقول أن بلدتنا -بالذات- مناخها صحراوي، شمسها قاسية وبردها قارص!!
كما يخاف الوالدان علي ابنهما من أي حمولة ثقيلة، فهو لا يستطيع أن يحمل كيلو خيار أو حتى خمس أرغفة من المخبز، فهذا أمر ثقيل يتسبب في تعب قلبه المسكين، والذي كلما يُطلب منه أي شيء لا يريد عمله، يمسك قلبه في حركات تمثيلية مكشوفة ويصرخ “قلبي .. قلبي”، فورًا يُعفى من حمل أي شيء، في البداية كان يكذب، والجميع يعرف أنه يكذب، ومع الوقت صدق الجميع كذبته، حتى هو نفسه صدق تلك الكذبة .
أيضًا ممنوع على “سامي” أن يلعب مع الأولاد الذين في سنه، فجميع الأولاد أشرار يريدون أذية المسكين، لذلك فمن الأفضل ألا يحادث أحدًا، ولا يصادق أحدًا، وهكذا نشأ “سامي”، منطويًا على نفسه بلا صديق ولا اهتمام بأي شيء، ذاته هي مصدر اهتمامه الوحيد، بها يهتم وفي محرابها يعبد، هو لم يعرف إلهًا غيرها، ولم يهتم أن يكون له صديق سواها، لذلك أصبح “سامي” أنانيًا جدًا، لا يهتم بأحد ولا يحب ولا يصادق أحدًا، كل هذا و”سامي” لا يشعر بأي حرمان، فهذا بالنسبة له تميز.
“سامي” أيضًا يخاف على نفسه كثيرًا، من أي شيء؟! يخاف من أن يدرس دروسه؛ فالإكثار من الدراسة غير مُحبذ بالنسبة له، لذلك هو لا يستذكر دروسه إلا فيما ندر، فهذا إجهاد على ذهنه من الصعب احتماله، وربما يؤثر إجهاده الذهني على قلبه الضعيف، ولا يستطيع أحد أن يضغط عليه، وإلا تظهر على الفور الحركات التمثيلية ويمسك بقلبه ويصرخ “قلبي… قلبي” وكأن الموت آتٍ لا محالة، ولكنه كان في سنوات النقل ينجح بالتساهيل وأيضًا بوصاية والده المربي الفاضل .
وهكذا نشأ “سامي” منذ طفولته إلى أن وصل إلى مرحلة المراهقة… محروم من كل شيء وهو يظن أنه في الكفة الرابحة، محروم من الأصدقاء والمعيشة الطبيعية بل ومن العبادة، أيضًا حُرم من اللعب مع أترابه ومن المذاكرة ومن المساعدة في البيت، ولم يتقن طوال هذه السنوات إلا شيئًا واحدًا وهو الطعام، يأكل ويأكل حتى صار كالعجل، ضخم الجسم، ولكن لا يتقن أي شيء، حتى لم تسنح له الفرصة كي يكتشف أي موهبة يملكها؛ فهو لم يجرب أي شيء أو يهتم بأي شيء، فتخلف كثيرًا عن أترابه.
ويصل الابن إلى الثانوية العامة في نفس الوقت الذي يخرج والده معاش وتنتهي قدرته على الاعتناء بابنه، والثانوية العامة يجب من خلالها أن يبذل كثيرًا من الجهد حتى يتمكن من اجتيازها بنجاح، ويحاول “سامي”، ولأول مرة يحاول “سامي” شيئًا، وتمر السنون والسنون والشاب لا يزال يحاول، وتمر السنون ويكبر الأستاذ “سعيد” ويشيخ ويحتاج إلى معاون له، فينظر إلى ابنه المدلل الذي أحبه يطلب مساعدته، وخاصة بعد زواج البنات الثلاث وانقطاعهن عن زيارته، كيف؟ كيف يساعده وهو لم يتعود أن يهتم بأحد أو ينظر لأحد غير نفسه؟ هو تعود أن يكون هو مصدرًا للاهتمام، وأن يكون مصدرًا للشفقة بينما لا يشفق هو على أحد.
الابن ينظر إلى أبيه باستهزاء، ويتعجب الأستاذ “سعيد”، هل يمكن أن يقابل ابنه محبته بذلك الجحود؟! يقول له:
– يا بني، لقد أصبحت شيخًا ولست بقادر، ونظري ضعف فلم أعد أر سوى أشباح، فقط أشتر احتياجات البيت.
ويثور الابن، فكيف يتجرأ أبوه ويطلب منه شيئًا؟! إن وظيفته في هذا البيت أن يطلب وأن تُنفذ طلباته، هكذا كانت ترتيبات الأمور في البيت دائمًا، وستظل؛ لأنه لا يزال يحتاج وعلى الأب أن يلبي، رجع الأب يسأل:
– ماذا تحتاج يا ابني؟!
وتعجب الشاب، ألم يفهم أبوه احتياجه؟!! إن طلبته واضحة، وطلب، وكان رأي والده أن هذه الطلبة عجيبة، لقد طلب من والده أن يدبر له “شهادة ثانوية عامة”، كيف؟! لو كانت تُشترى لاشتراها، ولكنها تعتمد على مجهوده هو، وهي بمثابة إعلان عن المستوى الدراسي.
في البداية كان الأب يظن أن هذا الأمر غير جدي، ولكنه فوجئ بالولد يصرخ فيه، ويطلب منه تدبير شهادة ثانوية عامة يتمكن من خلالها الدخول إلى أي كلية.
حاول والده أن يفهمه أن هذا الأمر بالذات يعود إليه، ولا يستطيع أحدًا أن يفعل شيئًا، فما كان من الولد إلا أن يمسك سكينة المطبخ مهددًا والده بالقتل، تخرج الأم خائفة، ليس على زوجها المهدد بالسكين، ولكن على ولدها المسكين وأعصابه المنهارة، وتصرخ المرأة الجاهلة في زوجها أن يلبي طلبة ابنها الوحيد حتى لا يصاب بأي أذى، إنه لم يعتد أبدًا أن طلباته لا تنفذ مهما كانت غير منطقية.
ونظر إليهما الأستاذ سعيد، واكتشف لأول مرة، أنه لم يرب ابنه، وأنه لن يجده في شيخوخته، فمسح دمعة ساقطة من عينين لا تريا الكثير ويبتعد عن المكان وهو يبكي سنوات عمره الذي ضاع.
***
انتهى الأستاذ سعيد من شراء مشترياته وأمسك السلة الثقيلة، وفي ألم واضح، يعود إلى بيته وهو يكلم نفسه:
– طلب شهادة ثانوية عامة، كيف أدبر له هذه الشهادة يا رب؟!
يرفع الأستاذ سعيد عينه إلى السماء كي تعينه على هذه المصيبة ويسير متعثرًا في خطاه، وعندما يصل قرب بيته ينظر إلى الشرفة، كان لا يزال “تمثال الشرفة” قابعًا مكانه، ناظرًا إليه بنظرات التحدي والتهديد والكراهية، وكان لا يزال صوت “فيروز” عاليًا.

المصدر: كتاب السباق الأخير

للكاتب :عماد حنا

مواضيع تهمك
شارك اصدقائك