الوهم

william

الــوهــم

كان كل واحد في أحلامه وهما في الطريق إلى الأردن بعد أن استقلا “السوبر جيت” خارجين، ولكن الأحلام تتشابه كما أن حياتهما تتشابه، فهما الاثنان انهيا معًا دراسة الدبلوم الفني في بلدتهما الصغيرة “ببا “، والتي تتبع محافظة “بني سويف”، وهما الاثنان أنهيا خدمتهما العسكرية معًا، وبعدها عملا في مهنة “النقاشة” قرابة السنتين معًا، ولكن أحلامهما اشتركت في أن يعملا بالتجارة، أن يفتحا محل لبيع أدوات البناء في نفس البلدة الصغيرة، حلم صغير يحتاج إلى رأس مال لم يملكانه، لذلك قررا السفر، ولأن الأردن أقرب بلد إلى مصر ولا تحتاج إلى إجراءات طويلة أو معقدة للدخول، قررا أن يذهبا إلى هناك، يعملا ويوفرا كل فلس حتى يتسنى لهما أن يحققا الحلم، عام أو اثنان أو ثلاثة يقضياها في الغربة، ويرجعا ومعهما رأس المال الكافي لبدء المشروع.
في الواقع الغربة في حد ذاتها لم تكن هي الهدف، بل المشروع هو الهدف، وقد اتفقا أن يجمعا معًا ما يساوي العشرين ألف جنيه مصري، عشرة آلاف يضعونها كخلو للدكان، والعشرة الأخرى يستخدمانها في وضع بعض البضاعة التي تكون هي رأس المال للمشروع، بضاعة قليلة تكبر مع الزمن، لقد خططا كل شيء، واتفقا أن يكونا على الحلوة والمرة معًا، وألا يفارقا بعضهما أبدًا.
يستقل الأتوبيس (المعدية) ويعبر إلى الضفة الأخرى، فيقول جودت لفوزي:
– ها قد بدأ المشوار يا عزيزي.
– لا يزال أمامنا ما يقرب من ثلاث ساعات حتى نصل إلى عمان.
– هيا لنرفع صلاة حتى ترافقنا المعونة الإلهية منذ البداية.
وانشغل الاثنان من جديد في الدعاء والفكر دون أي كلام في انتظار الوصول إلى الأردن.
***
لم تكن المعيشة أبدًا سهلة في الأردن، فهما لم يدخلا بناءً على عقد عمل، بل كانا كل يوم من الساعة السادسة صباحًا يقفان عند الدوار السابع بجوار محل اسمه {مشوار}، ومعهم أكثر من مائة عامل مصري في جميع التخصصات، ينتظران المقاولين بدون ترتيب، وكان الجميع يقف متلهفًا على العمل؛ فكل يوم عمل يقرب الأحلام … ويقلل من سني الغربة … ولكن الأمر ليس سهلًا؛ فقد تحول إلى صراع بين الجميع، وكله لصالح المقاول الذي يأتي في الصباح فيتهافت عليه العمال، ليحدد المقاول طلباته: أريد نجار مسلح، واثنين من عمال النقاشة، وثلاث كهربائية، ومواسرجي (سباك)، ويبدأ في الاختيار، ويصعد كل من وقع عليه الاختيار على سيارته ويرحل، تاركًا الباقي في انتظار مقاول آخر، وتمر الأيام ويوم يشتغل صاحبانا وأيامًا يبقون أماكنهم إلى الساعة السادسة مساء، ثم يرجعا إلى سكنهما في يأس.
لكن تلك العيشة قللت من ارتباطهما معًا؛ فكثير من الأيام يتزاحمان على عمل واحد، ويصعد واحد منهم إلى سيارة العمل ويبقى الآخر، وبدأت تظهر المشادات والمشاحنات، وعلى الرغم من هذا، ظل الهدف موجودًا عند الاثنان، المبلغ الذي به يبدآن تجارتهما، جمع المال بهذه الطريقة في منتهى الصعوبة، والمبلغ الذي يجمعانه في أسبوع يُصرف أكثر من نصفه في أيام الراحة.
***
كان النهار قد انتصف في ذلك اليوم الشديد الحرارة، والاثنان يقفان على ناصية الدوار السابع بجوار النافورة، وأمامهما ذلك المحل الذي يبيع الحلويات الشامية الجميلة (مشوار)، ينظر فوزي في يأس إلى جودت ويقول:
– يبدو أن مشوارنا طويل يا عزيزي … الأمور ليست سهلة كما تصورنا.
ينظر إليه جودت بعيون مليئة بالإصرار والتحدي ويقول له:
– ولكننا سننهيه .. لن نتوقف أبدًا ولن أرجع إلا وفي يدي ثمن الدكان.
يمر رجل يبيع تذاكر اليانصيب (شووت)، ويعرض التذاكر على “فوزي” و”جودت”، تلك التذاكر التي صُممت بطريقة أشبه بأوراق اليانصيب ودخلها موجه لدعم كرة القدم الأردنية، وكانت لها جوائز مالية قيمة تبدأ بخمسين دينارًا، وتنتهي بخمسة وعشرين ألف دينار أردني، نظر جودت إلى فوزي وقال له:
– ما رأيك؟
نظر فوزي إلى جودت شذرًا وقال له بحدة:
– رأيي؟ هذا حرام وستضيع النقود التي نستثمرها في مقامرة.
يرد جودت بإصرار:
– ليست مقامرة ولكنه مشروع خيري، ما رأيك أن نساهم في تطوير كرة القدم هنا في الأردن؟
صرخ فوزي:
– يا صديقي لن تكسب إلا ضياع مالك، الدينار ثمنه سبعة جنيهات مصرية الآن، لا تكن مغفلًا.
يضحك جودت ويقول:
– أحيانًا أحب أن أكون مغفلًا، ما رأيك، أنا أدفع نصف دينار وأنت نصف دينار، والمكسب بالنصف والخسارة تقل.
يتوتر فوزي ويصرخ:
– أنا لا أدخل هذه اللعبة أبدًا.
– أعدك أنني لن أدخلها إلا الآن، لدي شعور كبير بالمكسب، هيا نجرب يا عزيزي.
– لا!
– ها هي الورقة … ها! هل ستدفع وتشاركني المكسب؟
– لا! وإذا أصررت على الاشتراك، سأفصل ما أجمعه أنا عن ما تجمعه أنت؛ فأسلوبك هذا يجعلنا لا نستطيع أن ندبر مالنا.
قالها بتحدي وإصرار بالغ … ينظر جودت إليه… هو لا يحب أسلوب لوي الذراع في الحوار، ولا يحب أن يشعر أنه مضغوط عليه لكي لا يفعل شيئًا ما، فأصابه العند الصعيدي وقال بعناد:
– سأشتري … ولكن تذكر … إذا كانت فائزة، لن أعطيك فلسًا واحدًا؛ لأنك رفضت المشاركة معي، على الرغم من أننا اتفقنا أن نكون معًا في كل شيء.
– في كل شيء في العمل، أما ما تفعله فليس عملًا، وأنا لن أشاركك خسارة مالك، وتذكر أنني عندما أرجع إلى البيت سأفصل مالي عن مالك.
***
ويشتري جودت التذكرة وينتظر حتى يرحل البائع … وبهدوء يبدأ في كشط المواضع التي تحتاج إلى كشط، في البداية يرى المبلغ الذي سيكسبه فوجده خمسة آلاف دينار، ويكشط العبارة الأخرى التي في العادة تكون (آوت)Out) ( ولكنه فوجئ إذ قرأ عبارة (جون).
لقد كسب! خمسة آلاف دينار أردني، أي ما يوازي خمسة وثلاثين ألف جنيه مصري، هل هو حلم؟! ينظر إلى صديقه فوزي الذي صار وجهه أحمر كالرمان، ثم صرخ في فرح:
– لقد كسبت! أنظر، خمسة آلاف دينار … لقد ربحت خمسة آلاف دينار، يعني خمسة وثلاثين ألف جنيه مصري، لقد أنهيت غربتي يا عزيزي، هذا آخر يوم سأقف هنا وسأحقق حلمي.
نظر فوزي باستحياء وقال:
– ألف مبروك … لقد كنت على حق … سنحقق حلمنا معًا … ألم نتفق على أن كل مكسب يكون بالتساوي؟؟
نظر إليه … ضحك كثيرًا ثم قال:
– منذ متى؟! لقد انتهى كل هذا وفصلنا مالنا عن بعض منذ أن اشتريت هذه الورقة … ألم تقل ذلك منذ دقائق؟ وحتى هذه الورقة كنت سأخسر ثمنها بمفردي، على أي حال، مستعد أسلفك ثمن الرجوع بالطريق البري، أما أنا فسأرجع بالطائرة، ومستعد أشغلك معي كعامل في الدكان، ولكن صاحب الدكان هو أنا.
– ظهرت كل أشكال الحقد والكراهية على وجه الصديق، وصرخ فيه:
– أفضل الموت على هذا، سأستمر هنا أبحث عن حلمي، وهنيئًا لك بتحقيق حلمك … وسترى كيف يكون سيكون فوزي في المستقبل، هل تفهم؟ سأريك!
***
لم يعد جودت يقف أمام دكان الحلويات (مشوار)؛ فقد انتهى مشواره في الأردن ورجع إلى بلده ليبدأ مشروعه، وتمر الأيام والشهور، وترى فوزي واقفًا أمام “مشوار” ينتظر تحقيق حلمه، ولكن الأمر اختلف، فلم يعد فوزي يضع القرش على القرش، كان يعمل ويعمل… وكل ما يكسبه يشتري به تلك الأوراق التي تساهم في تطوير الرياضة الأردنية، من قدم إلى سلة إلى يد، لقد أدمن هذه الأوراق حتى صارت هي حياته وحلمه … يقول لنفسه مع كل ورقة: “أشعر أن في هذه الورقة رجائي وأملي، وينتهي بها مشواري”، ولكن المشوار لا ينتهي… ولا يزال فوزي واقفًا أمام (مشوار) إلى الآن، ينظر إلى الحلوى ولا تذوقها … وفي يده عدة الشغل وأوراق تساهم في تطوير الرياضة الأردنية.

المصدر: كتاب السباق الأخير

للكاتب :عماد حنا

 

مواضيع تهمك
شارك اصدقائك