هل نعبد نفس الإله؟! رحلة بين العهدين!

Roma
هل نعبد نفس الإله؟! رحلة بين العهدين!

 هل نعبد نفس الإله؟! رحلة بين العهدين!

للوهلةِ الأولى، ولأسبابٍ كثيرة تبدو منطقيَّةً عقلانيَّة، يفرض سؤالٌ هام حيَّر كثيرين، نَفْسَه، على ساحة الإيمان المَسيحي. ببساطة هو “

هل إله العهد القديم يختلف عن إله العهد الجديد؟!”

سؤالٌ رائع! على قَدْر أهميته، على قدر ما يقودنا إلى فَهْمٍ أفضل وأوضح لطبيعة الله وشخصيته!

فبين إلهٍ يبدو قاسيا عنيفا غَضوبا في العهد القديم، وإلهٍ يجولُ حانيا شافيا محررا يصنع خيرا، ليشفي كل المتسلط عليهم إبليس في العهد الجديد، تبدو الفجوة كبيرةً غريبةً مُحيرة!

سأُحاول جاهدًا في هذه المقالة، أن نستعرض معا عددا من الأفكار، التي تضعنا أمام استنتاجين لا ثالثَ لهما، قد نصل من خلالهم بنعمة الرب

للإجابة:

1- هل حقا تغيَّر الله ما بين العهدين؟
2- أم إنَّنا فقط نحتاج أن نرى صورةً كتابيةً أشمل عن الرب فنرى الحقيقة؟!
سأتناول سريعًا أفكارا ستة نمرُّ عليها في تسلسل تصاعُدي يقودنا للحقيقة!

● الفكرة الأولى: إله ثابت لم يتغيَّر عبر العهدين؟

أوَّل ما ينبغي أن نعرفه هو أنَّ السَّيد الرَّب لا يتغيَّر أبدا، تحت أي ظرفٍ مهما تغيَّر الزمان والمكان، أو تغيَّرت الشُّخوص! والوحيُّ المقدس أكَّد لنا ذلك بشكلٍ صريح عبر العهدين: القديم والجديد.
▪ في العهد القديم مثلا آية عظيمة ربما لا يعرفها كثيرون، أو لا ننتبه إليها كثيرا، قالها الرَّبُّ بنفسه، في سفر ملاخي:

«أَنَا ٱلرَّبُّ لَا أَتَغَيَّرُ» (ملاخي ٣: ٦).

▪ قالها أيضا في العهد الجديد كاتب الرسالة إلى العبرانيين: «يَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ هُوَ هُوَ أَمْسًا وَٱلْيَوْمَ وَإِلَى ٱلْأَبَدِ» (عبرانيين ١٣: ٨).
فذاك الذي خلق الكون، وظهر لموسى قديما، هو ذاته الذي شفى المرضى وغسل أرجل التلاميذ.
ذاك الإله الذي عاقب الشعوب الوثنية، هو ذاته الذي كان يحنُّ على المساكين، بقلبٍ يرقُّ للمُهمَّشين، شافيًا المرضى والمتألّمين.
الله لا يُغيِّر طبيعته، لكنَّه يتعامل مع كل جيلٍ حسب ظروفه واحتياجاته. هذا أولا! ثابتٌ لا يتغيَّر!
● الفكرة الثانية: إله العهد القديم أيضًا رحيم!

ثمَّة شواهد كثيرة جدا في العهد الجديد تُظهر أنَّ الرَّب رحيمٌ، رؤوف، طويل الروح، وكثير الرحمة، على العكس مما يظنُّه كثيرون أنَّ العهد القديم مملوءٌ فقط بالدينونة الإلهية والعقاب!
الحقيقة أنَّ الرَّبَّ أظهر لنا أيضًا صبره ورحمته العظيمة منذ القِدم.
هذه الرحمة ليست حكرًا على العهد الجديد، بل هي من الصفات الأزليَّة الثَّابتة:
«ٱلرَّبُّ، إِلهٌ رَحِيمٌ وَرَؤُوفٌ، بَطِيءُ ٱلْغَضَبِ، وَكَثِيرُ ٱلرَّحْمَةِ وَٱلْوَفَاءِ» (خروج ٣٤: ٦)
“رَحِيمٌ وَرَأُوفٌ هُوَ الرَّبُّ، طَوِيلُ الرُّوحِ وَكَثِيرُ الرَّحْمَةِ.” (مزمور ١٠٣: ٨).
وعلى سبيل المثال لا الحصر:
o صَبِرَ الرَّبُّ على فرعون قبل الضربات العشر، وأثناءها، وكان يُنذره قبل كلِّ ضربة.
o أرسل أنبياءه إلى بني إسرائيل على مدى قرون، وكان يُنادِيهم برسالة التوبة قبل أن يُعاقبهم.
o حتى حين عبدوا الأوثان، كان يعود ويُعطيهم فرصةً بل فرصا أخرى.

● الفكرة الثالثة: فَهْم الدينونة والعقاب ضمن السِّياق
نحن بحاجةٍ ماسَّة لدراسة ولفَهْم كل جوانب وملابسات حالات الدينونة والعقاب الإلهي الورادة في العهد القديم، ضمن سياقها الكامل، لنُدرك الموقف ولماذا حدث!
مثلا ما جرى مع بني قورح؛ الذين انشقَّت الأرضُ وابتلعتهم، هذه الواقعة لم تكن قاعدةً عامَّة، بل محض استثناءات تربوية، إذ قد أعلنوا تمرُّدَهم على موسى وهارون، متذمرين على قيادتهما للشعب، ولسان حالهما (كلنا مقدسون أمام الرب ولسنا بحاجةٍ لكما!)

“فَاجْتَمَعُوا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ وَقَالُوا لَهُمَا: «كَفَاكُمَا! إِنَّ كُلَّ الْجَمَاعَةِ بِأَسْرِهَا مُقَدَّسَةٌ، وَفِي وَسَطِهَا الرَّبُّ، فَمَا بَالُكُمَا تَرْتَفِعَانِ عَلَى جَمَاعَةِ الرَّبِّ؟»” (سفر العدد ١٦: ٣).
إذ كانت تلك اللحظة استثنائية في تاريخ التكوين الروحي لشعب الله، وكان الرب يُؤسس قواعد مقدّسة لحياة الجماعة. فكان لا بدَّ من رسائل حاسمة واضحة، تُزرع في قلوب الناس مخافة الرب واحترام قداسته.
تخيَّل دولة جديدة، في بداية نشأتها، وهناك من يُحاول أن يُحدث انقلابًا ضد السلطة.
إن لم يُوجَّه ردٌّ حاسم، سوف تنهار الدولة. قورح لم يتمرَّد فقط على موسى وهارون، بل تمرُّدُه كان على شخص الله نفسه. النتيجة لم تكن انتقامًا، بل تحذيرًا تربويًّا للأجيال القادمة، عن خطورة التعدِّي على سلطان الله.
● الفكرة الرابعة: مسألة تحريم الشعوب كتحريم كنعان مثلا؟
نقرأ أن الرب أوصى يشوع، كما أوصى القضاة الذين من بعده، أن يُحرِّموا شعوبا ومدنا بأكملها.
وهذا من أكثر الأسئلة التي تُطرح عن إله العهد القديم: كيف يأمر الله بإبادة شعوب بأكملها كشعوب الكنعانيين مثلا؟
ظاهريا قد يبدو الأمر بجُملته للوهلة الأولى قاسيًا؛ ما يجعل البعض يتَّهم الله بالقسوة!
لكن، هل يَجوز أن يتَّهم الإنسان الله، والإنسان نفسه مملوءٌ بالقسوة؟ الحقيقة، نحن كبشر، جميعنا في قفص الاتهام. والله وحده هو القاضي العادل. كما قال المزمور: «ٱلرَّبُّ قَاضٍ عَادِلٌ، وَإِلَهٌ يَسْخَطُ فِي كُلِّ يَوْمٍ» (مزمور ٧: ١١)

 لماذا لم تكن الشعوب الكنعانية بريئة؟

▪ مارست هذه الشُّعوب طقوسًا وثنية مرعبة.
▪ عبدوا آلهة غريبة تحت كل شجرة خضرا: «وَغَرَسْتَ لِنَفْسِكَ سَارِيَةً مِنْ كُلِّ شَجَرَةٍ خَضْرَاءَ» (تثنية ١٦: ٢١).
▪ قدَّموا أولادهم ذبائح بشرية للآلهة الوثنية، مثل الإله “مولك”،:

«وَلَا تُعْطِ مِنْ زَرْعِكَ لِلإِجَازَةِ لِمُولَكَ، لِئَلَّا تُدَنِّسَ اسْمَ إِلَهِكَ. أَنَا ٱلرَّبُّ» (لاويين ١٨: ٢١).
▪ حياتهم كانت مليئة بفساد جنسي وديني رهيب، ارتكبوه علنا!
▪ منحهم الله فرصًا عديدة للتوبة على مدار ٤٠٠ سنة كاملة! لكنهم استمرّوا في رفض التوبة.
▪ لذلك، لم يكن أمر تحريمهم أمرًا عشوائيًّا، بل قرارًا لحماية شعب الله من التلوّث بالعبادة الفاسدة.
▪ كذلك لحماية الأجيال القادمة من أن ترث هذا الانحراف الجنسي والأخلاقي المهلك.
ما حدث لم يكن قاعدةً ولا أسلوب حياة مستمر، بل استثناءً لحظة دخول أرض كنعان. الله لم يطلب إبادة كل الشعوب، بل حدد عشر شعوب بالاسم، وكان قد أنذرهم قبل ذلك بمدة طويلة.
لم تكن إبادة جماعية بلا معنى، بل كانت دينونة إلهية عادلة. فالله هو الديّان العادل كما قال أيوب:
«حَاشَا لِلَّهِ أَنْ يَفْعَلَ شَرًّا، وَلِلْقَدِيرِ أَنْ يَجُورَ! لأَنَّهُ يُجَازِي ٱلْإِنسَانَ عَلَى عَمَلِهِ» (أيوب ٣٤: ١٠-١١).
الفكرة الخامسة: في العهد الجديد، الله لا يزال يُدين.
كثيرون يظنون أن العهد الجديد خالٍ من الدينونة، لكن الحقيقة تُخالف هذا التصوُّر. الرب ليس إله نعمة فقط، بل إله دينونة أيضًا، يُدين الأشرار بالحق والعدل. ففي قصة حنانيا وسفيرة، نقرأ في سفر أعمال الرسل كيف ماتا في الحال بسبب الكذب على الروح القدس:

«فَوَقَعَ حَنَانِيَّا عِنْدَ قَدَمَيْهِ وَأَسْلَمَ ٱلرُّوحَ… فَوَقَعَتْ فِي ٱلْحَالِ عِنْدَ قَدَمَيْهِ وَمَاتَتْ» (أعمال ٥).
وفي رسالة العبرانيين نقرأ: «مُخِيفٌ هُوَ ٱلْوُقُوعُ فِي يَدَيِ ٱللهِ ٱلْحَيِّ!» (عبرانيين ١٠: ٣١).
● الفكرة السادسة: قمة إعلان الله في المسيح
أجمل ما في العهد الجديد ليس أن الله “صار طيّبًا”، بل إن الله كان في المسيح، مصالحًا العالم لنفسه، كما جاء:

«إِنَّ ٱللهَ كَانَ فِي ٱلْمَسِيحِ مُصَالِحًا ٱلْعَالَمَ لِنَفْسِهِ» (٢ كورنثوس ٥: ١٩)
الصليب هو اللحظة الفاصلة التي اجتمعت فيها محبّة الله مع عدالته. في المسيح رأينا إلى أي مدى يكره الله الخطية حتى الموت،

وإلى أي مدى يُحبُّ الخطاة، حتى إنه مات مكانهم.
ختاما.. إن إله العهد القديم الذي قدَّس شعبه، هو نفسه إله العهد الجديد الذي يُخلِّص كل من يؤمن به. الإجابة على السؤال ليست أن الله تغيَّر، بل أننا نكتشفه بشكل أوضح، كلما تعمَّقنا في كلمته.
فكلما قرأنا الكتاب، بعهديه: قديم وجديد، رأينا صورة الله الحقيقي:
القدوس، المُحب، الصبور، العادل، الفادي. فإن كانت صورتك عن الله مشوَّهة، عُد إلى الإنجيل من جديد، لأن الرب يسوع قال:

«ٱلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى ٱلْآبَ» (يوحنا ١٤: ٩).

المصادر: سلسلة (أسئلة كتابية هامة) – حلقة: هل إله العهد القديم هو إله العهد الجديد؟
الكاتب : الدكتور القس هاني ظريف، راعي الكنيسة الإنجيلية بالملك الصالح.

مواضيع تهمك
شارك اصدقائك