لم تكن أبدًا … النهاية
william
لم تكن أبدًا … النهاية
ربما نواجه مشكلة … زلزال في حياتنا،
ونظن أن كل الأمور انتهت … انقلبت رأسًا على عقب،
وسرعان ما نصرخ … لماذا؟
ولكن إذا استعدنا أتزاننا سريعًا،
ربما نجد المعنى وراء ما يحدث،
ونكتشف أن القدير لديه خطة رائعة للعمر الباقي من حياتنا،
فلا نملك إلا السجود لذلك السميع العليم،
صارخين،
ما أعظمك أيها القدير!
– ها قد نُشر الإعلان.
كنت أقلب في جريدة الصباح أبحث عن ذلك الإعلان الذي طلبت منهم وضعه، ذلك الإعلان الذي يعلن عن مشروعي الكبير، أخيرًا بعد كفاح وصبر طوال الثلاث سنوات الماضية بدأت تظهر ملامح ما كنت أسعى إليه، ولكن هل ستنجح الفكرة؟ لم أشعر بالخوف مثلما شعرت به الآن … كنت فيما مضى أركب سيارة السباق وأضع قدمي على دواسة البنزين وأنطلق، أتعرض لكثير من المخاطر وأحيانًا أرى الموت بعيني ولكن لا يغمض لي رمش، أما الآن… فقلبي يرتجف من الخوف لئلا أفشل.
لم أعرف لماذا ذلك الخوف الذي لم أعتده، ربما لأن هذا المشروع وضعت فيه كل جهدي ومالي، وربما لأن هذا المشروع هو مستقبلي القادم بعد أن أصبحت أسير لذلك الكرسي المتحرك بعد أن فقدت ساقي.
نظرت إلى الإعلان – طريق الانتصار – وسبح ذهني في تيار الماضي القريب، كانت هناك إعلانات كثيرة في الصحف تتحدث عن “چون ألكسندر”، وانتصارات “چون ألكسندر”، فقد كنت بطلًا رائعًا في سباق السيارات، ولم أعرف في حياتي معنى الخسارة سواء كنت على رأس فريق أو كنت في سباق فردي، ظلت نتائجي من أفضل النتائج طوال وجودي على حلبة السباق، أما الآن فأنا لا أقود إلا ذلك الكرسي المتحرك الذي أصبحت أسيره بعد ذلك الحادث المشؤوم.
ابتسمت في أسى وأنا أُخرِج نفسي من بالوعة رثاء النفس التي كدت أضع نفسي فيها، ونظرت من جديد إلى تلك الجريدة، وأخذت أقرأ الإعلان وكأني كنت أكتبه لنفسي: “دعوة لإثبات ذات”، ومن جديد رن في أذني أصوات تصفيق المعجبين والمعجبات بعد عبوري خط النهاية، فدمعت عيناي، ومن جديد أُخرٍج نفسي من هذه المشاعر، وأنظر أمامي إلى طريق سباق صغير كنت قد صنعته في فيلتي الذي هو مستقبلي الآن.
مرة أخرى أرجع إلى الجريدة، “دعوة لإثبات ذات”، وشرعت أقرأ السطور: “إلى كل شخص يدعي أنه أقل من الآخرين، إلى كل شخص يقول إن الله ميز الآخرين عنه وأحبهم دونه بسبب إصابة أو عاهة، سارع بالاشتراك بهذا السباق للكراسي المتحركة، ليس الهدف معرفة من الفائز أو من الذي سيصل أولًا إلى خط النهاية، لكنه إثبات ذاتك وقدرتك أن تعيش مثل الآخرين، السباق ينظمه بطل سباق السيارات السابق “جون ألكسندر”، ومكان السباق هو حديقة منزله”.
***
تركت يداي تعصران عجلات المقعد المتحرك وتصل إلى الطريق الذي جهزته لبدء السباق، ومن جديد عدت بذهني إلى بوابة الزمن، لأتذكر نفسي منذ ثلاث سنوات عندما كنت أشترك في سباق آخر، سباق هدفه الوحيد هو معرفة من يكون الفائز ليتوج بطلًا، ويُصفق له ويفوز بالجائزة المالية الكبرى، كنت على وشك الفوز بهذا السباق، كنت دائم التفاؤل وأشعر دائمًا بذلك التحدي الذي يجعلني أقتحم الصعاب، متوقعًا الانتصار رغم كل العوائق، ولكن في هذا السباق كان الوضع مختلفًا، إذ كانت العوائق والأخطار ليست من المتنافسين أو من وعورة الطريق… لكن كانت من داخل الفريق، وهنا كانت المشكلة، لأنها أتت من حيث لم أتوقع.
في هذا السباق كنت أتقدم الجميع، دقائق وينتهي السباق، إنه آخر ملف ويعُلن الفائز، وكنت أنا في المقدمة، وخلفي صديقي العزيز “چورچ”، وكنا قد اعتدنا أن نكون كفريق واحد، نكسب معًا، أنا في المقدمة بصفتي الأكبر والأقدم والمعلم، وهو يأتي من خلفي، ولكن في هذا السباق رفض هذا الترتيب، ودون أن يقول لي حاول أن يتخطاني في الملف الأخير على حساب كل شيء، بل على جثتي.
ولم أشعر إلا بصدمة كبيرة في وقت قاتل نحتني عن طريق السباق وحطمت عربتي، وتقدم “چورچ” ليكسب السباق وسط ذهول ووجوم المتفرجين، كسب “چورچ” السباق ولكن… لم يصفق له أحد.
***
وقفت بكرسيَّ المتحرك عند بداية الطريق -طريق السباق- وأغمضت عيناي، وتذكرت ذلك اليوم الذي تعرفت فيه على “جورج “، ومن أعماق السنين سمعت من بعيد صوت أحد العمال يصرخ:
– “چون” … “چون”، ألست داخل سيارتك الآن؟!
وقتها ضحكت على هذا التعليق، وقد ظننته يمزح معي فقلت له:
– ها أنت تراني أمامك، فكيف أكون داخل سيارتي؟!
فرد علي بجدية بالغة:
– إذن هناك من سرق سيارتك، لقد رأيتها تخرج من الورشة بسرعة واعتقدت أنك داخلها.
– سرق أحدهم سيارتي؟! هكذا تقول ببساطة؟ ماذا يفعل سارقها بسيارة سباق؟!
وجرينا ناحية الورشة التي فيها تُصلح السيارة، ولكني سمعت حشرجة سيارة داخل حلبة السباق، فأسرعت ناحية الصوت لنجد سيارتي تسير بسرعة كما لو كانت داخل سباق، فصرخت:
– اللعنة على هذا الشخص الذي يقودها، هي ليست جاهزة بعد.
وبعد أن أتمت السيارة دورانها، تقف أمامنا بطريقة استعراضية، ويخرج منها رجل لا يلبس أي زي واق، وبابتسامة كبيرة يستقبلنا:
– والآن يا سيدي، ما رأيك فيما فعلت؟
صرخت:
– متهور، ألا تعلم أن السيارة هكذا كان من الممكن أن تنفجر بك؟
ولكن هدأ الجميع من روعي، وهو نفسه اعتذر كثيرًا وقال:
– حاولت أن أقنع الجميع بمهارتي ومقدرتي على أن أخوض السباق وفشلت، وأنت أملي الوحيد.
– أملك في ماذا؟
– ضمني إلى فريقك.
– أنا لا أعمل في فريق، إنني أسابق بمفردي، ولا أدخل في سباقات الفرق.
ونظرت إليه، كانت نظرات الإحباط قد بدأت تعلو وجهه، لقد وضع رجاءه علي، قلت له:
– حسنًا … سأجرب أن نعمل معًا كفريق، ولكن هل تعرف معنى هذا؟
– ما معناه يا سيدي؟
– معناه أنني أجازف بسمعتي، فيجب أن ننهي السباق معًا، وأنت تحتاج إلى كثير من التمرين والخبرة.
ضحك بسعادة وصفق بيده قائلًا:
– علمني.
– ستكون مطيعا؟
– جدًا.
– ما اسمك؟
– چورچ ستيفن.
احتضنته وقلت:
– سنكون أصدقاء يا چورچ، سأعطيك خبرتي وتكون أنت خليفتي على الحلبة.
وتزاملنا فترة طويلة، مرات داخل سيارة واحدة ومرات كفريق سيارات، وكثيرًا ما تذوقنا حلاوة الانتصار، وصنع چورچ لنفسه شعبية ليست بقليلة، ولو قال لي فقط أنه يريد أن يكمل مستقبله بمفرده لما غضبت ولما فقدت ساقي، ولكن كيف يطعنني في ظهري؟! كيف؟!!
***
دائمًا طوال هذه الثلاث سنوات كلما أتذكر هذا الأمر ينتهي بي إلى البكاء، وكثيرًا ما هربت من هذه الذكرى لأتذكر شخصًا آخر، “ستيف”، خادمي العجوز، هو الذي عرفني كيف أعبد إلهي عبادة حقيقية وهو الوحيد الذي بقى معي بعد تلك الحادثة المشؤومة، وكثيرًا ما كنت أدخل في نوبات هياج شديدة عندما أتذكر ما فعله معي صديقي المخلص، فأجده يضمني إلى صدره بحنان بالغ، كثيرًا ما كنت أصرخ:
– لماذا … لماذا؟
– ما الذي تريد أن تعرفه يا “چون”؟
– لماذا أراد الله لي هذا العجز؟ لماذا لم يعد يحبني؟ لماذا أسلمني في قبضة من وثقت به؟ هل أراد تحطيمي؟!
يحتضنني ستيف كطفل ويقول:
– الله يحبك أيها العزيز “چون”، وإذا كانت هذه الأمور لغز الآن ستفهم فيما بعد، حاول أن تعرف ماذا يريد الله منك.
صرخت كثور هائج:
– ماذا يريد الله مني؟! نعم، ماذا يريد من شخص مقعد فاقد أطرافه ولا يستطيع أن يفعل شيئًا؟!!
بهدوء يجيبني:
– الله غّير من عملك ومن رسالتك الآن، أتذكر يا “چون” يوم أن بدأت علاقتك بالله، وأعلنت تسليم حياتك بالكامل له، هل تراجعت الآن؟
– غير الله من رسالتي!!
صرخت:
– أي رسالة يطلبها الله من شخص معوق كسيح مثلي، أي رسالة أستطيع أن أؤديها وأنا حبيس الفراش، كلا يا ستيف، لقد مات چون ألكسندر إلى الأبد!
نظر إليّ ستيف بحب، وابتسم وقال:
– أنا لم أقل عكس ذلك يا چون … أجل، مات سائق السيارات الشهير جون، مات الرجل الذي تهلل له الملايين وهو ينتهز تلك الفرصة ويجمع الناس ويشهد بمحبة يسوع، كانت رسالة حلوة ولا شك، ولكن انتهت الآن، ولابد من رؤية جديدة لمستقبل آخر، يولد “ألكسندر” آخر، له رؤية أخرى بها يخدم سيده.
وكان هذا اليوم هو ميلاد جديد، يقولون إن الإنسان يمكن أن يولد مرتين، مرة من بطن أمه، ومرة ولادة روحية فيها يصير ابنًا لله، ولكني أعتقد أنه يوجد عدة ولادات أخرى، يوم أن يعطي الرب لابنه رؤية عظيمة، ويجهز بأسلوبه الخاص لتحقيقها في هذا الميلاد الجديد، وأنا ولدت مرة ثالثة، تلك المرة التي عرفت فيها أن الله جهزني على كرسي متحرك لكي أستطيع أن أخدم اليائسين والمعوقين والمحتاجين، كان لابد أن أكون مثلهم لكي أستطيع أن أفهمهم ويفهمونني، أدرك مشاعرهم ويصدقون كلامي.
ميلاد ثالث يهلل له الله وتفرح به السماء، نعم ولد “چون” آخر يقول للعالم الكسير إن الله موجود ويحبك، ويسوع هو الصديق الألزق من الأخ، الصديق الذي لا يخون ولا يقتل في سبيل مصلحته، بل يموت لأجل أحبائه، فتكون حياة “چون” هي الرسالة التي يقدمها الله للناس.
***
– أخذت أهذب الأشجار وأنا أتذكر “ستيف” الذي لم يشأ الرب أن يبقيه معي، فأخذه قبل أن يشاهد ثمرة فكرته، ولكني تعودت ألا أحزن، الله سوف يدبر شخصًا آخر يكمل معي الطريق، فأنا داخل المشيئة الإلهية لذلك لا أخاف شيئًا.
أخذت أتساءل: “ترى كم شخصًا سيبدأ معي السباق؟”، مجرد سؤال لا يهمني كثيرًا إجابته، فلقد كان هذا السباق مجرد حجة سوف أكررها كثيرًا لأتعرف بها على أولئك الذين عجزوا أن يصيروا مثل الآخرين.
***
وأنا مشغول مع حديقتي، دخل الفيلا شخص، هذا الشخص أعرفه … إنه “چورچ”! الصديق الذي أراد قتلي، لماذا جاء إلي الآن، في هذا الوقت بالذات؟! هل يريد أن يشاهد حطامي؟
أخذت أنظر له، وهو لم يلاحظني، هل هو من أرسله الله ليكمل معي الطريق؟! كيف؟! بكل المقاييس لا يمكن أن أثق به، فلا يجب أن يُلدغ المرء من نفس الشخص مرتين، وأنا من الذكاء لأتعلم من التجربة الماضية، ولكن … ما الذي حدث به خلال هذه السنوات الثلاث؟! لم أسمع عنه قط أنه فاز في أي سباق بعد الذي فعله معي، ترى لماذا؟
مشاعري اضطربت وأنا أشاهد من حطم حياتي، أراه ينظر إلى ذلك الطريق ويتأمله، وفجأة أخذ يتراجع … هل سيمضي؟ كلا … لن أدعه يذهب، فرغم كل شيء، أنا أشتاق إليه، صرخت:
– “چورچ”!
نظر إلي، وبينما يداي تعصران عجلات الكرسي المتحرك بيدي، رأيت دموعه تنهمر، أخذت أقترب وهو مسمر في مكانه، لن تستطيع أن تهرب مني يا قاتلي، وصلت إليه، فقال لي:
– “چون” … ذلك الحادث لم يحطمك وحدك … لقد تحطمت أنا أيضًا معك.
قلت له:
– أيها المجنون! ذلك الحادث ميلاد جديد لي.
ومددت يدي لأصافحه، ليندفع كالمجنون يعانقني … تعانقنا كأحب الأصدقاء.
– لماذا لم أعد أسمع اسمك في سباق السيارات يا جورج؟
مسح دموعه وقال:
– لم يعد يهمني الآن أي سباق، يكفي أنك سامحتني.
وأشار بيده إلى ذلك الطريق الذي صنعته وقال:
– سأسير معك في هذا الطريق، وسننتصر سويًا في طريق الحب.
المصدر :كتاب السباق الأخير
للكاتب :عماد حنا