مِحْنَةُ الإِيمَانِ

Roma
مِحْنَةُ الإِيمَانِ

 مِحْنَةُ الإِيمَانِ وَكِرازَةُ الأَسِير

تفتح أسوار قيصريَّة أبوابها لتستقبل رسولًا أسيرًا، لا مجرمًا. هنا، على شاطئ البحر المتوسِّط وفي مركز السُّلطة الرومانيَّة، سيمضي بولس عامين كاملين،

لا كسجينٍ، بل كشاهدٍ جريءٍ أمام أعلى السُّلُطَات. ستكون قاعة المحكمة هي منبره، وكلمته هي سيف فمه.

هذه المقالة تتبع مسار بولس الرسول منذ وصوله إلى قيصريَّة، مرورًا بمحاكماته المتتالية أمام فيلكس وفستوس والملك أغريباس،

ووصولًا إلى سجنه الأول في روما، حيث تُثْبِتُ لنا قصَّته أنَّ كلمة الله لا يمكن أن تُقَيَّد، وأنَّ نور الإنجيل قادرٌ أن يسطع حتَّى من أعمق الزنازين.

• بين طَمَع فِيلِكْس وسيَاسَة فَسْتُوس

وصل بولس إلى قيصريَّة وسُلِّمَ إلى فيلكس الوالي، الذي أمر بحراسته في قصر هيرودس. بعد خمسة أيَّام، حضر وفد الاتِّهام من أورشليم،

وعلى رأسهم حنانيا رئيس الكهنة، ومعهم خطيبٌ مستأجرٌ اسمه ترتلُّس، الذي وجَّه لبولس تهمًا خطيرة: إثارة الفتنة، وقيادة شيعة، وتدنيس الهيكل.

دافع بولس عن نفسه بقوَّة، مُفَنِّدًا الادِّعاءات، فأدرك فيلكس أنَّ الرجل بريء.
لكنَّ فيلكس، الذي كان يعيش في الحرام مع دروسيلا اليهوديَّة، لم يكن رجل عدلٍ، بل رجل مصالح.

أبقى بولس في السجن، لا لسببٍ قانونيّ، بل على أمل أن يدفع له بولس رشوةً ليطلقه. حتَّى إنَّه استدعاه مرارًا،

ليس ليسمع عن الحقّ، بل لعلَّه يحصل على المال.
وفي إحدى هذه المرَّات، انتهز بولس الفرصة وتكلَّم أمامه وأمام دروسيلا عن الإيمان بالمسيح وعن البرّ والتعفُّف والدَّيْنُونة،

فارتعب الوالي وقال له: “اذهب الآن، ومتى حصل لي وقت استدعيك”. وهكذا، ترك فيلكس بولس في السجن مُقَيَّدًا لمدَّة سنتين كاملتين، إرضاءً لليهود.

بعده جاء الوالي الجديد، بوركيوس فستوس، الذي حاول اليهود معه مجدَّدًا أن ينقلوا محاكمة بولس إلى أورشليم ليقتلوه في الطريق.

لكنَّ فستوس، ورغم محاولته إرضاءهم، أبقى المحاكمة في قيصريَّة. وعندما رأى بولس أنَّ العدالة بعيدة المنال وأنَّ حياته في خطر،

استخدم حقَّه الأخير كمواطنٍ رومانيٍّ وصرخ بكلمته الحاسمة: “إِلَى قَيْصَرَ أَنَا أَرْفَعُ دَعْوَايَ!”.

• بُولُس يُحَاجِج أَغْرِيبَاس

قبل أن يُرْسَلَ بولس إلى روما، حدث أمرٌ استثنائيٌّ. فقد جاء الملك أغريباس الثاني وأخته برنيكي لزيارة الوالي الجديد فستوس،

الذي عرض عليهما قضيَّة سجينه الغريب. أبدى أغريباس، بصفته يهوديًّا وخبيرًا بالعادات، رغبته في سماع بولس بنفسه. وفي اليوم التالي، وف

ي مشهدٍ احتفاليٍّ مهيب، جلس أغريباس وبرنيكي وفستوس مع قادة المدينة، وأُحْضِرَ بولس الأسير ليقف أمامهم.
لم تكن هذه محاكمة، بل كانت فرصة ذهبيَّة للشهادة. بدأ بولس حديثه بفرحٍ، مُخاطِبًا الملك الذي يفهم النبوَّات، وسرد له قصَّة حياته بأسلوبٍ رائع:

كيف كان فَرِّيسِيًّا مُضطهِدًا للكنيسة، وكيف ظهر له الربُّ يسوع في الطريق إلى دمشق، وكيف تحوَّل من مُضطهِدٍ إلى رسولٍ للأمم.

كان فستوس الوثنيّ يستمع في حيرة، حتَّى قاطعه صائحًا: “أَنْتَ تَهْذِي يَا بُولُسُ! ٱلْكُتُبُ ٱلْكَثِيرَةُ تُحَوِّلُكَ إِلَى ٱلْهَذَيَانِ!”.

لكنَّ بولس أجابه بهدوءٍ وثقة: “لَسْتُ أَهْذِي أَيُّهَا ٱلْعَزِيزُ فَسْتُوسُ، بَلْ أَنْطِقُ بِكَلِمَاتِ ٱلصِّدْقِ وَٱلصَّحْوِ”.

ثم الْتَفَتَ إلى الملك مرَّة أخرى وسأله سؤاله المباشر: “أَتُؤْمِنُ أَيُّهَا ٱلْمَلِكُ أَغْرِيبَاسُ بِٱلْأَنْبِيَاءِ؟ أَنَا أَعْلَمُ أَنَّكَ تُؤْمِنُ”. ت

أثَّر الملك بشدَّة، وأجاب بجملته الخالدة التي تكشف عن صراعٍ داخليٍّ عميق:

“بِقَلِيلٍ تُقْنِعُنِي أَنْ أَصِيرَ مَسِيحِيًّا”. فقال الملك لفستوس بعد انصرافهم، “كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُطْلَقَ هَذَا ٱلْإِنْسَانُ، لَوْ لَمْ يَكُنْ قَدْ رَفَعَ دَعْوَاهُ إِلَى قَيْصَرَ”.

• فِي رُومَا أَسِيرًا: الكَلِمَةُ لَا تُقَيَّد

أخيرًا، تحقَّق وعد الربّ، ووصل بولس إلى روما. سُلِّمَ الأسرى إلى رئيس المعسكر، بينما أُذِنَ لبولس أن يقيم في منزلٍ استأجره لنفسه،

مع جنديٍّ واحدٍ يحرسه. لم يكن سجنًا بالمعنى الحرفيّ، بل إقامة جبريَّة أتاحت له قدرًا كبيرًا من الحرِّيَّة. وعلى الفور،

بدأ خدمته، فاستدعى زعماء اليهود وشرح لهم سبب مجيئه، وأخذ يكرز لهم بملكوت الله من صباحٍ إلى مساء.
بقي بولس على هذه الحال سنتين كاملتين، يستقبل كلَّ من يأتي إليه، ويُعَلِّم بأمر الربِّ يسوع بكلِّ مجاهرةٍ وبلا مانع.

لم تكن السلسلة التي تربط رسغه بحارسه عائقًا، بل كانت منبرًا جديدًا، حتَّى إنَّ الإنجيل وصل إلى الحرس الإمبراطوريّ، وإلى أهل بيت قيصر نفسه.
خلال هذه الفترة، زاره العديد من رفقائه وخدَّامه، مثل لوقا وتيموثاوس ومرقس وأبفراس.

ومن هذا السجن، كتب بولس أربع رسائل خالدة، عُرِفَت برسائل الأسر: إلى كنائس أفسس وفيلبّي وكولوسي، ورسالته الشخصيَّة إلى فليمون.

لقد حوَّل سجنه إلى مركزٍ للكرازة والتوجيه الرعويّ، مُثْبِتًا أنَّ الأسوار لا تستطيع أن تحبس كلمة الله.

• خاتمة

إنَّ حياة بولس الرسول هي ملحمةٌ من الجهاد والتضحية، لم تنتهِ فصولها إلَّا بقطع رأسه. لقد جاهد في سبيل نشر الإنجيل وتحمَّل الآلام والصعاب،

فكان بحقٍّ رسول الجهاد. وقبل رحيله، قدَّم أجمل شهادة يمكن أن يقدِّمها خادمٌ أمينٌ لسيِّده، تلخِّص حياته بأكملها، وتظلّ مصدر إلهامٍ لكلِّ مؤمنٍ عبر العصور،

حين قال: “قَدْ جَاهَدْتُ ٱلْجِهَادَ ٱلْحَسَنَ، أَكْمَلْتُ ٱلسَّعْيَ، حَفِظْتُ ٱلْإِيمَانَ، وَأَخِيرًا قَدْ وُضِعَ لِي إِكْلِيلُ ٱلْبِرِّ ٱلَّذِي يَهَبُهُ لِي فِي ذَلِكَ ٱلْيَوْمِ،

ٱلرَّبُّ ٱلدَّيَّانُ ٱلْعَادِلُ، وَلَيْسَ لِي فَقَطْ، بَلْ لِجَمِيعِ ٱلَّذِينَ يُحِبُّونَ ظُهُورَهُ أَيْضًا.” (2 تيموثاوس 4: 7-8).

الكاتب/ الشيخ فيكتور فهمي، شيخ الكنيسة الإنجيليَّة بالقُللي

مواضيع تهمك
شارك اصدقائك