مَفاتِيحُ الكَنْزِ الإِلَهِيّ

Roma
مَفاتِيحُ الكَنْزِ الإِلَهِيّ

     مَفاتِيحُ الكَنْزِ الإِلَهِيّ

أروعَ ما في الوجود حقًّا هو كلمةُ الله، فهي ليست مجرَّدَ كتابٍ تاريخيٍّ أو أدبيٍّ، بل هي إعلانُ الله الخاصّ والحيّ عن ذاته. وفي رحلة دراستنا لهذا الكنز الثمين، يبرز سؤالٌ جوهريٌّ وأساسيٌّ: ما هو هدفنا الأسمى من القراءة؟ 

تُحَدِّدُ الإجابة مسار رحلتنا بأكملها. فالغاية ليست فقط معرفة القصص أو الشخصيَّات،، بل الوصول إلى معرفة شخص الله نفسه معرفةً حقيقيَّةً وصحيحة. 

كثيرون قد يُقَدِّمون لنا تخيُّلاتٍ عن الله، لكنَّها كثيرًا ما تأتي مُشَوَّهَةً أو مغلوطة؛ لا لشيء إلا لأنَّها لا تستند إلى أساس الكلمة الإلهيَّة. لذلك، يبقى الرجوع الدائم للكلمة هو الضمان الوحيد لتصحيح مفاهيمنا، والوقوف على أرضٍ صلبة، مُدْرِكِينَ أنَّ الله ما زال يتكلَّم، ويُعْلِن عن حضوره حتَّى في أصعب الظروف.

·      المَدْخَلُ اللاهُوتِيّ: البَحْثُ عَنْ شَخْصِ اللهِ أَوَّلًا

المدخل الأوَّل والأهمُّ لدراسة الكتاب المُقَدَّس هو المدخل اللاهوتيُّ. هذا يَعني أنَّ سؤالنا ونحن ندرس أيَّ جزءٍ بروح الصلاة والخضوع، يجب أن يكون: “يا رب، ماذا تريدني أن أعرف عنك من خلال هذه الكلمات؟”. 

فالله أعلن عن نفسه في الإعلان العام في الطبيعة، لكنَّه كشف عن قلبه وفكره بشكلٍ خاصٍّ وعميقٍ في كلمته المكتوبة. الكلمة هي النَّبعُ الآمن والصافي الذي نرتوي منه لمعرفة الله كما يريد هو أن يُعَرِّفنا بنفسه. 

هذا المدخل إنَّما يحمينا من التصوُّرات الخاطئة، ويجعل عَلاقتنا بالله مبنيَّةً على الحقّ الذي أعلنه هو، لا على أفكارنا أو مفاهيم الآخرين. فكُلُّ ما كُتِبَ، كُتِبَ لأجل تعليمنا، وتعليمنا الأهمُّ هو عن شخص الله.

     المَدْخَلُ التَارِيخِيّ: فَهْمُ السِيَاقِ لِإِدْرَاكِ الرِّسَالَة

لا يمكن أن نفهم رسالة الله فهمًا كاملًا دون أن نضعها في سياقها التاريخيّ. هذا هو المدخل الثاني، وهو يتطلَّب مِنَّا أن نفهم الظروف والأحداث التي كُتِبَت فيها الأسفار المُقَدَّسَة. على سبيل المثال، عند دراسة سفر إرميا، من المُهِمّ أن نفهم الحدث المركزيَّ في تاريخ الشعب وهو “السبي”. يُحَدِّثنا إرميا عمَّا حدث قبل السبي، وما حدث أثناءه، وما تبع ذلك. 

فَهْم هذا السياق التاريخيُّ يُضِيء لنا النبوَّات، ويكشف عن أمانة الله وقدرته حتى وسط دينونة شعبه. هذا المدخل لا يقتصر على سفر إرميا، بل ينسحب على كُلِّ الكتاب المُقَدَّس، حيث إنَّ فهم خلفيَّة الأحداث يجعل الكلمات تنبض بالحياة، ويكشف لنا عن تفاعل الله مع التاريخ البشريّ.

·      المَدْخَلُ العَمَلِيّ: كَيْفَ تُحْدِثُ الكَلِمَةُ فَارِقًا

المدخل الثالث هو المدخل العمليُّ أو التطبيقيُّ، الذي ينقل الكلمة من مجرَّد نصٍّ قديم إلى قوَّة مُغَيِّرَة لحياتنا اليوم. تُقَدِّم كلمة الله لنا دروسًا عمليَّةً وتحدِّياتٍ مُعاصرة. إذْ تُعَلِّمُنا كيف نعيش الأمانة في زمنٍ مليءٍ بالكذب، وكيف نمتلئ بالشجاعة في عالمٍ يسوده الخوف، وكيف نتمسَّك بالتواضع في وجه الكبرياء، وكيف نتشبَّث باليقين وسط بحرٍ من الشكوك. الله الذي دعا إرميا قديمًا، هو نفسه الذي يدعونا اليوم. لقد وضع كلمته في فمه وأعطاه سلطانًا، وهذه هي نفس الكلمة التي بين أيدينا اليوم، القادرة أن تقتلع وتهدم كُلَّ شرٍّ، وتبني وتغرس كُلّ خير. يقول الرب لإرميا:

“«قَبْلَ أَنْ أُصَوِّرَكَ فِي ٱلْبَطْنِ عَرَفْتُكَ، وَقَبْلَ أَنْ خَرَجْتَ مِنَ ٱلرَّحِمِ قَدَّسْتُكَ. جَعَلْتُكَ نَبِيًّا لِلشُّعُوبِ». فَقُلْتُ: «آهِ، يَا سَيِّدُ ٱلرَّبُّ، إِنِّي لَا أَعْرِفُ أَنْ أَتَكَلَّمَ لِأَنِّي وَلَدٌ». فَقَالَ ٱلرَّبُّ لِي: «لَا تَقُلْ إِنِّي وَلَدٌ، لِأَنَّكَ إِلَى كُلِّ مَنْ أُرْسِلُكَ إِلَيْهِ تَذْهَبُ وَتَتَكَلَّمُ بِكُلِّ مَا آمُرُكَ بِهِ. لَا تَخَفْ مِنْ وُجُوهِهِمْ، لِأَنِّي أَنَا مَعَكَ لِأُنْقِذَكَ، يَقُولُ ٱلرَّبُّ». وَمَدَّ ٱلرَّبُّ يَدَهُ وَلَمَسَ فَمِي، وَقَالَ ٱلرَّبُّ لِي: «هَا قَدْ جَعَلْتُ كَلَامِي فِي فَمِكَ. اُنْظُرْ! قَدْ وَكَّلْتُكَ هَذَا ٱلْيَوْمَ عَلَى ٱلشُّعُوبِ وَعَلَى ٱلْمَمَالِكِ، لِتَقْلَعَ وَتَهْدِمَ وَتُهْلِكَ وَتَنْقُضَ وَتَبْنِيَ وَتَغْرِسَ».” (إرميا 1: 5-10).

·      خاتمة

إنَّ هذه المداخل (اللاهوتيَّة والتاريخيَّة والعمليَّة) ليست جُزُرًا مُنْعَزِلَة، بل أدوات مُتَكَامِلَة تساعدنا على الغوص في أعماق كلمة الله. فمن خلال فهم السياق التاريخيّ، نصل إلى فهمٍ أعمق لشخص الله، وهذا الفهم بدوره يدفعنا إلى تطبيق الكلمة في حياتنا العمليَّة. في النهاية، يبقى الهدف واحدًا: أن نلتقي بالله في كلمته، وأن نسمح لهذه الكلمة بأن تُشَكِّلنا وتُقَدِّسنا وتُرْشِدنا في كل حين، مُتَمَسِّكِينَ بالحقّ القائل بأنَّ الله حاضرٌ وفاعلٌ، وكلمته هي مرساتُنا الأمينة في خِضَمِّ أمواج هذه الحياة.

الكاتب/ الدكتور القس هاني ظريف – راعي الكنيسة الإنجيليَّة بالملك الصالح

 

مواضيع تهمك
شارك اصدقائك