المتهم

william

المـتـــهم

كان يتلفت حوله وهو يسير في اتجاه الكنيسة، يطمئن أن أحدًا لا يتبعه، فالذي يفعله خطيـر جدًا، نظر إلى الحقيبة التـي في يده … كانت ثقيلة جدًا، وضعها على الأرض لكي يلتقط أنفاسه ويريح يده المتعبة ويعدل من هيئته، فهو اعتاد أن يكون أنيق الملبس بما يليق بوضعه الاجتماعي المرتفع، أمسك الحقيبة الجلدية الضـخمة مرة أخرى وسار متثاقلًا، دخل إلى الكنيسة ليجد عسكري الحراسة واقفًا بالباب، نظر إليه وقال:
– صباح الخير يا شاويش.
رد العسكري التحية بلهجة ريفية شهيرة ودون أن يغير من مجلسه:
– صباح الخير يا دكتور.
– القسيس موجود؟
– موجود.
دخل الطبيب الكنيسة، ولم يلحظ تلك النظرة الساخرة التي بدت على وجه العسكري وهو يهمس بصوت خفيض: ” كأنه لا يعرف أنه موجود”.
وصل الطبيب إلى باب بيت الراعي وقرعه، ففتح القس الباب وقال:
– أهلًا يا دكتور.
– أهلًا يا حضرة الراعي.
ويدخل الطبيب ويغلق القس الباب بسرعة.
عشر دقائق تمر، والعسكري لا يزال جالسًا أمام الباب الأمامي للكنيسة التـي يحرسها، لتقف أمام الباب سيارة ميكروباص، وينـزل شباب الكنيسة الذين يعرفهم العسكري جيدًا، يبدو أنهم يعدون لحفلة موسيقية؛ فها هي حقائب الكمان والأرج والعود وتلك الآلة الضـخمة التـي تشبه العود ولكـنها كبيـرة جدًا، كل شاب يحمل واحدة من تلك الآلات، يدخلون وهم يضـحكون، وإن بدت الحقائب ثقيلة بعض الشيء، نظر العسكري بخبث إليهم وابتسم، فابتسموا بدورهم له وقالوا معا:
– صباح الخير يا شاويش.
– صباح الخير يا شباب.
وبدلًا من أن يدخلوا إلى الكنيسة، قرعوا باب السكن الخاص بالقس … والذي هو مقابل الكنيسة، فضحك العسكري وقال:
– باب الكنيسة من الناحية الأخرى.
ابتسم الشباب وقال أكبرهم:
– تدريب اليوم في شقة القسيس.
– لماذا؟ وماذا بها الكنيسة؟
– في الكنيسة سوف نضيء الأنوار في قاعة كبيـرة، بينما عددنا بسيط، في المنزل سيكون الأمر على الضيق.
– صحيح؟
– نعم يا شاو يشنا.
وضحك الجميع بسرور بينما فتح القس الباب وأدخلهم بسرعة، ومن جديد… كانت نظرات العسكري الساخرة تلاحقهم.
ربع ساعة تمر دون أن يسمع العسكري أصوات الموسيقى الصاخبة التـي تعود أن يسمعها عندما يبدون تدريباتهم، ثم جاء أيضًا رجل يحمل على ظهره شوالًا كبيـرًا ويسير ببطئ شديد، كان رجلًا قرويًا تبدو سمات البلاهة على وجهه، وإن كانت عيناه تلمعان بشدة مما يدل على ذكائه الشديد.
يمر على العسكري، فيقول له بلهجته الريفية:
– سعيدة يا شاويش.
– سعيدة يا بلدينا.
– القسيس موجود؟
– موجود يا بلدينا … إيه اللي في الشوال اللي معاك؟
– هذه زيارة للقسيس … هذا الشوال يحتوي على أشياء من اللي قلبك يحبها.
ابتسم العسكري … وقال في خبث:
– أحب السمنة البلدي … ذوقنا يا بلدينا.
بادله الرجل خبثًا بخبث وقال:
– طبعًا سوف يأتيك من الحب جانب.
وبدوره قرع على باب القس، ودخل عندما فُتح الباب مسرعًا تتبعه ابتسامة العسكري الساخرة.
***
– من الأكيد أن العسكري لاحظ شيئًا.
قالها الدكتور بتوتر شديد، فرد القس:
– ربما، وخصوصًا أن لنا أكثـر من خمسة أيام ننقل كل هذه الأشياء في حقائب وزكائب، أعتقد أن كل شيء قد اكتمل، أليس كذلك يا عم أحمد؟
نظر الرجل ذو الجلباب إلى كل شيء على الأرض، وقال:
– نعم يا سيدي، لن أحتاج إلى شيء آخر.
قال القس:
– عظيم! يجب أن ننهي عملنا سريعًا، هل أنت مستعد يا عم أحمد؟
– أمرك يا سيدي … لكني أريد بعض هؤلاء الشباب لمساعدتي.
قال أحد الشباب:
– نحن قد أتينا خصيصًا لكي نساعدك، ولكن علينا أن ننتهـي بأقصى سرعة؛ حتى لا تعرف الشرطة شيئًا عما نفعله.
قال القس:
– لو الشرطة اكتشفت الأمر … سوف أغلق الباب عليكم، وطوال الوقت الذي أكون فيه في القسم، يجب أن يستمر العمل، لن يتوقعوا استمراركم في العمل أثناء غيابي.
قال عم أحمد:
– مفهوم يا سيدي!
وأخذ الجميع يخرجون محتويات الحقائب التي نقلوها طوال الخمسة أيام، وبدأوا في العمل، بينما يراقب القس الباب الخارجي، وفجأة قال أحد الشباب:
– أنا من رأيي أننا ينبغي أن نقسم أنفسنا، بعضنا يعمل مع عم أحمد، والبعض الآخر يعزف موسيقى ليتأكد العسكري أننا نتدرب على الحفلة الموسيقية فعلًا.
قال القس:
– فكرة جميلة يا مجدي، لكن الآلات الموسيقية…
– مش مهم، أخرج بسرعة أجيب أرج وكمان من الكنيسة عشان نعزف عليهم.
وخرج الشاب بسرعة ليجد العسكري ناظرًا إليه … فرسم على وجهه ابتسامة بلهاء غبية، وبادله العسكري نفس الابتسامة الساذجة، ودخل الشاب إلى الكنيسة المقابلة لبيت الراعي، وأخذ أرج صغير وكمان، ورجع ليبتسم من جديد للعسكري، ويبادله العسكري الابتسامة، ويدخل بيت الراعي.
واستأنف الجميع العمل، وعلا صوت الأرج والكمان ليعم الصخب أرجاء المنزل.
***
وقفت عربة الشرطة أمام الكنيسة، ينزل ضابط ومعه بضعة عساكر إلى العسكري، يقف العسكري باحترام قائلًا:
– تمام يا أفندم.
– ما هي الأخبار يا عسكري … هل هناك أي أخبار؟
– نعم يا أفندم.
– ما هي؟
– معسكر عمل.
– بدأ من بدري؟
– من أول النهار يا سعادة الباشا.
صاح الضابط غاضبًا:
– من أول الصبح وساكت يا حيوان!!!
أسرع إلى الداخل، وقال للعسكري:
– في البيت أم الكنيسة يا رجل؟!
– في البيت يا سعادة الباشا.
قرع الباب في شدة وغضب، باب بيت القس بالطبع:
***
توتر المكان بعد أن سمع الشباب قرع الباب العنيف، قال القس وهو في داخل البيت ببعض التوتر:
– بسرعة يا عم أحمد، ادخل أنت ومساعديك غرفة النوم.
ترك عم أحمد كل شيء مكانه وهو يقول:
– حاضر يا حضرة القسيس … ربنا يستر … لا تخف يا سيدي … الله معنا.
كان عم أحمد يتكلم وهو يلملم بعض أشيائه … قال القس:
– عندما نترك المكان يجب أن تكملوا العمل إلى أن ينتهي.
– أمرك يا حضرة القس.
قرع الضابط الباب من جديد بشدة أكثر وعصبية أكثر، بينما أمسك أحد الشباب أدوات العمل ليبدو أنه هو الذي يعمل، وأسرع القس يفتح الباب ليدخل الضابط مسرعًا وقال للقس:
– نهارك سعيد يا قسيس، سمعت أن عندك عمل اليوم.
قال القس ببرود:
– هؤلاء شباب الكنيسة، يقومون بتصليح دورة المياه في شقتي.
قال الضابط ساخرًا:
– وهل أنت لديك دورة مياه من الأصل يا رجل؟
سكت القس ولم يرد، ودخل الضابط ليتفاجأ بالجريمة، إنهم يعملون دورة مياه جديدة في بيت الراعي، وجد حقائب أنيقة بها سيراميك ورمل وأسمنت ومواسير، أما الشوال الكبير فكان يحتوي على كرسي الحمام.
نظر الضابط إلى الراعي شذرًا وقال له:
– تعال معي يا قسيس … وهات شبابك معك.
خرج القس ومعه الطبيب وبعض الشباب، وحرص الراعي أن يغلق شقته بالمفتاح، بينما أحمد السباك لا يزال ينتظر داخل غرفة النوم ليتأكد من خروج الجميع، ومعه مساعدوه من شباب الكنيسة.
خرج القس وركب عربة الشرطة، تلاحقه نظرات عسكري الحراسة الساخرة.
***
الضابط يدخل مكتبه هائجًا، ومن وراءه القس وبعض أعضاء الكنيسة البارزين.
– حضرة القس.
– نعم؟
– أنت متهم بعمل إصلاحات في الكنيسة وترميمات بدون ترخيص أو حتى بدون إذن شفوي بذلك.
– إنها دورة مياه تخص شقة الراعي يا سيدي وليست الكنيسة، وأنت تعرف أنه لا أحد يعيش بدون دورة مياه في بيته.
– لابد من الإذن يا رجل!
– وأنا طلبت الإذن منذ ثلاثة أشهر، ولكنكم رفضتم إعطائي الترخيص، وأنا تعبت من الاستحمام عند أعضاء الكنيسة، علاوة على قضاء الحاجة.
قال الضابط بحدة:
– أنت تعرف قواعد الأمن جيدًا، إننا نحميكم، أنتم لا تقدرون المسؤولية!
يدخل عضو مجلس الشعب إلى الضابط، يتكلمون معًا والقس واقف ينظر إليهم، عضو مجلس الشعب يحاول إقناع الضابط، والضابط يتمنع بشدة.
وأخيرًا ينظر الضابط إلى القس ويقول:
– سوف أعمل لك محضر عمل بدون ترخيص، وهذه جنحة أيها القس!
قال القس بصوت خفيض ساخر:
– الحمد لله أنها لم تصبح جناية.
يتجاهل الضابط الكلام الخفيض، وينظر إلى عضو مجلس الشعب، ويقول:
– لأجل عيون ذلك الشيخ الطيب، سوف أفرج عنك بضمان محل إقامتك، والعمل يتوقف تمامًا من هذه اللحظة، وإياك أن تكرر هذا الموضوع!
وخرج القس من القسم باسمًا؛ فقد وجد عم أحمد السباك خارج القسم ينتظره ويقول له:
– لقد انتهينا … بقية أتعابي يا حضرة القسيس.

المصدر :كتاب السباق الأخير

للكاتب :عماد حنا

مواضيع تهمك
شارك اصدقائك