دروس من قلب الأزمة

Roma
دروس من قلب الأزمة

   دروس من قلب الأزمة

مَن مِنَّا لم يتعرَّض لأزماتٍ في حياته؟! بالطبع جميعُنا تعرَّض!

لكن مِنَّا من كَسَرته الأزمة!

ومِنَّا من وقف عاجزا عن التعامل معها!

مِنَّا أيضا مَن قرر رغم صعوبتها وقسوتها أن يواجهها، مهما كانت عنيدةً أو تبدو مستحيلة، حتى لو تعرَّض في المسير لإخفاقاتٍ كثيرة وإحباطاتٍ أكثر.

ولأن كلمة الله دائما ليست عن أشخاصٍ فضائيين أو معصومين، أو يعيشون في واقعٍ منعزل عن تفاصيل حياتنا، حتى لو كانوا في أزمنةٍ بعيدة، فهي تشاركنا بأحداثٍ حقيقية لأشخاصٍ تعرَّضوا مثلنا لأزمات ونكبات وضيقات وتحديات، منهم أيضا من فشل، ومنهم من واجهها. والكلمة لا تشاركنا على سبيل السَّرد القصصي أو التاريخي، لكن لنتعلم دروسا عملية صالحة للتطبيق في كل وأي زمانٍ ومكان.

في هذا المقالة سنتعرض لوقائع وردت في الإصحاح الثاني والأربعين من سفر التكوين، حيث يكشف لنا الوحيُ المقدس المشهد في أرض كنعان، والذي كان الحالُ فيه هناك كما في سائر الأرض، إذ ضَرَبَتِ المجاعة الشعوبَ جميعا. أنصحكم جميعا بقراءة هذا الإصحاح!

·      حُلم صار حقيقةً مُرَّة لإخوة يوسف

ها يعقوب، يُوَبِّخ أبناءه على عدم إحساسهم بالمسؤولية، وعلى كسلهم وتخاذلهم، بل وخوفهم أيضًا من طول الطريق إلى أرض مصر. فأمرهم بالذهاب إلى مصر ليشتروا القمح اللازم لمعيشتهم، لهم ولنسائهم وأولادهم. بالفعل، تسير الأحداث، وينطلق عشرة من أبناء يعقوب، تاركين بنيامين، الذي رفض يعقوب أن يرسله معهم، لخوفه عليه، على الرغم من أن بنيامين لم يكن طفلًا في ذلك الحين، كما يظن البعض. فيوسف لم يكن يكبره بكثير.

كان يعقوب لا يزال يتذكّر ما جرى ليوسف على أيديهم، لكن لا هو ولا أولاده كانوا يعلمون أن يوسف قد صار المتسلّط على أرض مصر. هنا تتحقّق الأحلام وتُصبِح واقعًا. في هذا الإصحاح، نرى أبناء يعقوب قد نزلوا إلى مصر، وهناك وقفوا أمام يوسف – أو بالأحرى سجدوا له – إذ لم يكن في مقدورهم أن يرفعوا رؤوسهم نحوه، ولم يتعرَّفوا حتى على ملامحه، بسبب طول الفُرقة، أو تغيُّر هيئته، أو هَيْبَته، أو ملبسه، أو مقامه كمن له سلطانٌ عظيم – فقد كان رئيس وزراء مصر في ذلك الزمان.

ها هي الحُزَم العشر تقوم، وتنحني سُجودًا وإكرامًا لحُزمة يوسف كما كان الحُلم. أما هم، فلم يعرفوه، لكنه عرفهم من أول نظرة. لا شكَّ أنَّه حاول أن يستدرجهم ليعلم منهم أخبار أبيه وأخيه الأصغر. وكان يتذكَّر الأحلام التي رآها قديمًا، والتي بسببها حنقوا عليه لكن حوَّلها الربُّ لخيره. 

وجّه إليهم باتّهامٍ مباشر، قائلًا: «جَوَاسِيسُ أَنْتُمْ! لِتَرَوْا عَوْرَةَ الأَرْضِ جِئْتُمْ» (سِفْرُ التَّكْوِين 42: 9). وكان هذا الاتهام كافيًا – بحسب قانون الأرض – لأن يُحكَم عليهم بالموت في مصر، عندها ابتدأوا يتضرّعون إليه، قائلين: “لاَ يَا سَيِّدِي، بَلْ عَبِيدُكَ جَاءُوا لِيَشْتَرُوا طَعَامًا.” (سِفْرُ التَّكْوِين 42: 10). ولم يُدركوا أن الحلم الذي رفضوه، والذي أبغضوه يوسف لأجله، هو بعينه الذي يتحقّق الآن، سواء بسجودهم، أو بكلامهم. وفي الأخير اعترفوا في قلوبهم نادمين بالذنب العظيم الذي اقترفوا تجاه أخيهم.

   من هذا الإصحاح المبارك، نستلهم مجموعة من الدروس الروحية:

·      الدرس الأول: الإيجابية تصنع الفارق

–       التعامل الإيجابي مع الأزمات هو السبيل لتجاوزها والتغلُّب عليها.

·      الدرس الثاني: الحكمة والهدوء في وقت الشِّدَّة

–       الحكمة والاتزان أثناء الأزمة يُخرجان منها دروسا ثمينة وأثمارًا للنجاة. 

–       وهذا ما رأيناه في يعقوب حين أوصى بنيه بالنزول إلى مصر.

·      الدرس الثالث: المبادرة والتَّصدِّي للأزمة

–       مواجهة الأزمات وعدم الهروب منها يُسهم في تجاوزها.

–       فلولا أن فرعون اختار يوسف، بعد أن رأى فيه الحكمة والبراعة الإدارية، لما نجَت مِصر، ولا العالم، من المجاعة.

–       ولولا أن يعقوب تحرَّك بإيجابية وأرسل أبناءه، لما استطاعت عائلته النجاة من هذه الضيقة العظيمة.

·      الدرس الرابع: الاعتراف بالخطأ مفتاح التغيير

–       الاعتراف بالخطأ خطوة لا بديل عنها لتصحيح المسار.

–       ذلك عندما شعر إخوة يوسف بالذنب، واعترفوا بخطيتهم تجاه أخيهم، وقالوا: “حَقًّا إِنَّنَا مُذْنِبُونَ إِلَى أَخِينَا.” (سِفْرُ التَّكْوِين 42: 21).

–        فأقرُّوا أنهم لا بُدَّ وأن يدفعوا ثمن ما اقترفته أيديهم.

–       فكان هذا الاعتراف بداية استرداد العلاقة مع يوسف، بل ومع أبيهم أيضًا. فبدأوا مسيرة التوبة والتصحيح.

    ختاما..

وهذا إن جاز التعبير درسٌ خامس. الاعتراف أساس الغفران، فإن كنت ترغب أن يغفر لك أخوك أو قريبك، لا بُدَّ أن تبادر أنت بالاعتراف،

لا تنتظر أن يأتيك الغفران دون مصالحة. قال الرب يسوع: “فَإِنْ قَدَّمْتَ قُرْبَانَكَ إِلَى الْمَذْبَحِ، وَهُنَاكَ تَذَكَّرْتَ أَنَّ لأَخِيكَ شَيْئًا عَلَيْكَ، فَاتْرُكْ هُنَاكَ قُرْبَانَكَ… وَاذْهَبْ أَوَّلًا اصْطَلِحْ مَعَ أَخِيكَ.” (متّى ٥: 23، 24). الغفران مشروطٌ بالتوبة والندم، والرغبة في عدم الرجوع إلى الخطأ.

نعم، تُخالطنا مشاعر إنسانيَّة بشريَّة كثيرة وقت الأزمات والضيقات والتحديات والضغوطات والظروف الصعبة، لكن علينا أن ننفضها عن كاهلنا سريعا، تماما كما نفض بولس الحية من عليه فورا بثقة وإيمان في الرب، أنها لن تؤذيه، حتى لو كل من حولك قالوا لك إن هذه النهاية ولا مخرج لديك أبدا، تماما كما فعل المحيطون ببولس لحظتها.

هنا وبعد التخلص السريع من غبار وقسوة الواقع والعيان، تستطيع استرجاع كل ما لديك من رصيد معرفة وحق في كلمة الله؛ لتتعامل مع الموقف من ثبات لا رعبٍ وانهيار!

أترك معك بنهاية هذه المقالة هذه الأعداد الثمينة لتتأمل فيها في ضوء ما تعلمناه من هذا الإصحاح!

“فَجَمَعَ بُولُسُ كَثِيرًا مِنَ الْقُضْبَانِ وَوَضَعَهَا عَلَى النَّارِ، فَخَرَجَتْ مِنَ الْحَرَارَةِ أَفْعَى وَنَشِبَتْ فِي يَدِهِ. فَلَمَّا رَأَى الْبَرَابِرَةُ الْوَحْشَ مُعَلَّقًا بِيَدِهِ، قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: «لاَ بُدَّ أَنَّ هذَا الإِنْسَانَ قَاتِلٌ، لَمْ يَدَعْهُ الْعَدْلُ يَحْيَا وَلَوْ نَجَا مِنَ الْبَحْرِ». فَنَفَضَ هُوَ الْوَحْشَ إِلَى النَّارِ وَلَمْ يَتَضَرَّرْ بِشَيْءٍ رَدِيّ.”

المصادر: سلسلة لاهوت وحياة/ حلقة دروس هامة من قلب الأزمة

الكاتب : الدكتور القس هاني ظريف، راعي الكنيسة الإنجيلية بالملك الصالح.

 

مواضيع تهمك
شارك اصدقائك