تزوجني…وَإِلَّا …

william

تَزَوَّجَنِي – وَإِلَّا . . .

في ذلك المساء لم أكن أعرف بأنني سوف أواجه ما لم أوجهه من قبل؛ فمنذ أن بدأت خدمة الزيارات مع ذلك الخادم العجوز وأنا أزور أماكن لم أعهدها من قبل، وأقابل أناس من كل شكل ولون غيـر هؤلاء الناس الذين تربيت في وسطهم وألفت معاملتهم وطرق تفكيرهم.
كان ذلك البيت في مكان غريب لم أذهب إليه من قبل، اسمه حي العرب، وهو حي بعيد عن مدينة سوهاج، تلك المدينة التـي أعيش فيها والتـي هي في صعيد مصر، وفي الطريق كان ذلك الخادم العجوز يحدثني عن ذلك البيت الذي نحن مقبلون على زيارته.
– إني أريدك يا عزيزي شادي أن تصمت تمامًا، هذا المنـزل الذي سوف يستقبلنا الآن تسكنه أرملة عجوز اعتادت أن تعيش علي الكفاف ومعها ابنتها التي عملت حديثًا في مستشفى خاص فبدأت تتذوق طعم المال أخيرًا.
كنت محتارًا، فلم أكن أفهم أين المشكلة، كنت أظن أنها زيارة عادية نفتقد الفتاة وأمها للكنيسة، أو بهدف تقديم محبة المسيح لها في شكل معونة مالية أو عظة صغيرة، فلماذا هذا التوجس غيـر الطبيعي من تلك الزيارة؟!!
ولكن ما قاله بعد ذلك جعل بدني يقشعر، بينما هو يتكلم ببساطة من آلف على مواجهة هذه الأمور.
– هذه الفتاة التي سوف تراها تريد أن تترك المسيح وتعيش بعيدًا عنه.
وفهمت ما يقصده لكنني احترت، فماذا يمكن أن نقدم إلى فتاة اتخذت قرارها وعرفت مصيرها … لابد أن الأخ أنور يمتلك حلًا لهذه المشكلة … لابد.
***
كان المنزل متواضعًا كسائر المساكن الموجودة في هذا المكان، كان الصبية الصغار يلعبون في الطرقة الخارجية، وتدل ملابسهم على الفقر الشديد.
قرع الخادم العجوز الباب، ففتحت لنا سيدة عجوز منحنية الظهر، نظرت إليه ثم أفسحت الطريق وهي تقول في ضجر :-
– تفضل بالدخول يا أخ أنور.
ثم راحت تنادي على ابنتها:
– سميرة … سميرة … الأخ أنور حضر … تعالي.
وجاءت فتاة في حوالي الثلاثين من عمرها، تلبس ملابس نوم رخيصة وتعقد شعرها بطرحة ريفية كعادة بنات البلدة، تبتسم في سـخرية وهي تقول :-
– أهلًا يا أخ أنور.
ثم تنظر إلي متأملة في بجاحه، مما جعلني أشعر أن الدماء كلها صعدت إلى وجهي تاركة بقية أعضاء جسمي، وأظن أن وجهي في تلك اللحظة تحول إلى اللون الأحمر الدموي … مما جعلها تضحك ضحكة خليعة وتقول:
– لم تعرفنا يا أخ أنور بهذا الأخ.
نظر الأخ أنور إليّ وابتسم وهو يقول:
– هذا الأخ شادي … من الخدام في الكنيسة، جاء يسأل عنك يا سميرة.
نظرت سميرة إليّ وعيناها تكاد تخترقني ببجاحه لم أعهدها في فتاة من قبل، ثم قالت:
– تفضلوا بالجلوس.
جلسنا … ورحت أتأمل المكان، كانت الصالة التي نجلس فيها عبارة عن كنبتين بلدي وكرسي خشبي، وعلى الطرف الآخر من الصالة كانت غسالة بدائية بجانبها إناء من البلاستيك موضوع به بعض الملابس المتسخة، وكرسي حمام ووابور جاز قديم عليه حلة “طنجرة” كبيرة، ويبدو أنهم كانوا يعدون العدة لغسيل الملابس، وفي الطرف الآخر باب يؤدي إلى غرفة نوم، ورأيت من خلال الباب المفتوح سريرًا كبيرًا عليه أشياء لا أعرف ما هي مكومة بإهمال، وهذا هو كل شيء.
وسرعان ما جاء الشاي الأسود الذي تناوله الأخ أنور بنهم شديد، وأنا بقرف أشد، ثم بدأ الأخ أنور يتكلم:
– ما أخبارك يا سميرة … سمعت أنك الآن تعملين في مستشفى الدكتور “أحمد باهي”، هل أنت مرتاحة هناك؟
ابتسمت “سميرة” بخبث من يفهم المعنى الذي وراء السؤال، ثم أجابت:
– مرتاحة أم لا، ما الذي يهمكم في هذا، لقد طلبت كثيرًا منكم أن أعمل، ولجأت إلى الكنيسة ولكنني لم أجد الجواب الشافي، بل كنتم تتهربون دائمًا.
– لم نتهرب يا سميرة … ولكن فعلًا لم يكن بأيدينا في ذلك الوقت أي عمل، ثم …
لم تدعه “سميرة” يكمل حديثه، فقاطعته وقالت:
– أدخل في الموضوع مباشرة يا أخ “أنور”، أنا أعرف السبب الحقيقي وراء مجيئك، لست الوحيد الذي زارني في أقل من عشر أيام، في هذه الأيام العشرة زارني خادمين للإنجيل وقس ومطران، فجأة أصبحت مهمة لكل الطوائف المسيحية، لماذا كل هذا أيها الأخ أنور؟!
ابتسم الأخ أنور وقال:
– أنا جئت لأدعوك إلى الكنيسة يا “سميرة”.
نظرت إليه ساخرة ثم سالته:
– هل تعلم كم سنة لم أخضر إلى الكنيسة أنا وأمي يا سيدي؟ أكثر من أربع سنوات، لم يزرني خلالها أي شخص، كنت في حاجة إلى الطعام والملبس والعمل، لكنني لم أجد المعونة، طرقت كثير من الأبواب منها أبوابكم، ولكنها لم تفتح لنا أي أبواب، حتى في الوقت الذي أذهب فيه إلى الكنيسة، كنت أشعر أن هذا المكان ليس مكاني، نظرات الامتعاض تلاحقني من الفتيات اللاتي يجلسن بجانبي، من يرفضن من يلبس ثيابي ومن يعيش معيشتي، لماذا هذا الاهتمام الآن ؟ هل لك أن تصدقني القول أيها الأخ؟
– سمعت خبرًا أحزنني، جئت أتأكد من صحته.
نظرت “سميرة” إلى الأخ “أنور” متحدية وهي تقول:
– نعم! الذي سمعته حقيقة لن أخفيها، قريبًا ستتحول تلك الحقيقة إلى واقع ملموس.
– هل تبيعين المسيح يا “سميرة”؟
– هو لم يشتريني، ولم يهتم بي، أبسط الطلبات طلبتها ولم أنلها، لذلك سوف أتركه.
– هو لم يشتريك؟ بل اشتراك.
وأسرع يفتح الكتاب المقدس، فقامت مسرعة أغلقت له الكتاب المقدس بعصبية وقالت:
– كفى … لم يعد هذا مجدي بالنسبة لي، أعلم أنك سوف تقول أن المسيح مات لأجلي على الصليب، وأنه دفع ثمن أخطائي التي فعلتها والتي لم أفعلها بعد، وأعلم أيضًا أنك سوف تتغنى بمحبته لي وبعنايته ورعايته، أعلم كل هذا لأن هذا ما قاله لي الآخرون الذين زاروني قبلك، ولكن هذا الكلام لم يعد يمس شغاف قلبي؛ لأنني ببساطة أعلم أنه كلام محفوظ لم تشعروا أنتم به، فأنا لم ألمس هذه المحبة في أتباعه الذين يحملون كلمته ويتبعون هداه.
– لكننا نحبك حقًا يا “سميرة” … وإلا ما أتينا لك الآن.
ابتسمت الفتاة بمرارة وقالت كلمة لن أنساها:
– أنك لا تحبني ولم تحبني أبدًا … وإلا كنت لاحظت اختفائي طوال هذه السنين الأربعة، ولكنت بحثت لي عن عمل أعول به نفسي ووالدتي المريضة، وأنا أثق الآن أنك لم تأت إليّ محبة فيّ، بل لتحفظ ماء وجهك وماء وجه مسيحك؛ إذ يسيئك أن يقول الناس أن هناك أشخاص تركوا ذلك الوهم الذي اسمه المسيح، أنك تريد أن تثبت لنفسك وللآخرين أنك على حق، وأن ما تتبعه هو حق.
– ولكن يا سميرة …
– ولكن كلكم كاذبون، إن المحبة التي يأمرنا بها المسيح لم يعرفها أحد منا ولم يستطع تنفيذها أحد، لم يسأل أحد عني حين غبت، مررت بأزمات رهيبة لم ينتشلني منها سوى قراري هذا.
وشعرت أن الأخ أنور كمن صُفع صفعة كبيرة على وجهه، بينما هي نظرت إليّ وقالت:
– قل لي يا أخ شادي، كيف تراني؟ هل أنا جميلة في نظرك أم قبيحة؟
لم أعرف ماذا أقول، فهذه أول مرة تسألني فتاة مثل هذا السؤال، ولكن الأخ أنور عاجل بالكلام منقذًا إياي من ورطة كدت أقع فيها من فتاة لا تعرف للخجل معنى.
– بل أنت جميلة جدًا يا سميرة.
نظرت إليه بمرارة وقالت:
– إذن لماذا لم يفكر أحد في الزواج مني إلى الآن، هل تعلم كم هو عمري؟ ثلاثون عامًا، لم يفكر أحد في خطبتي، أليس من حقي أن أعيش مثلما تعيش بقية زميلاتي؟ لقد طلبت الزواج صراحة من الكاهن، ولكنه لم يهتم بي، في اعترافاتي أوضحت مشكلتي ومعاناتي، ولم أجد سوى الاستخفاف بمشاعري بأسلوب مقيت، الآن أنا قد وجدت ذلك الشخص الذي سوف يجعلني أعيش في بيت بدلًا من هذه الخرابة.
– لكن …
– هو متزوج ويعول أربعة أولاد … ولكنه وعدني بشقة لي وحدي، سأعيش كسيدة منزل لأول مرة في حياتي.
– والمقابل يا سميرة؟
– المقابل أن أترك هذا المسيح، ولكن ماذا قدم لي المسيح وأتباعه في المقابل؟! هل تقول لي يا أخ أنور؟
– أنت تحسبينها خطأ يا سميرة، الله يريدك أن تسلمي حياتك بالكامل له، أن تكون بينك وبين المسيح علاقة محبة وشركة، هو سوف يشبعك ويلبي احتياجاتك عندما تصيري ابنة له، أنت إلى الآن لم تعطيه الفرصة لكي تتذوقي من خلاله حياة الشبع والسرور، أنت تحددين رغباتك، أنك لست واثقة أن الله يعطي الأفضل دائمًا لأولاده، حتى ولو كان المنظر العام لا يدل على ذلك، ربما أولاد المسيح لم يكونوا أمناء معك ولم يهتموا بك، لكن هو يظل أمينًا إلى الأبد، إنك تحتاجين إلى حياة جديدة في ظل المسيح، طوال ثلاثين عامًا دُعيت مسيحية دون أن تتذوقي الحياة المسيحية أبدًا، لماذا لا تسلمي حياتك وتجربي المعيشة في ظل يسوع؟
نظرت إليه ساخرة وقالت:
– لن أتبع يسوع إلا بشروطي، إني أريد أن أتزوج، لقد انتظرت كثيرًا أن يطرق العريس بابي مثل أي فتاة فلم أجد، هل تقدم لي هذا العريس يا أخ أنور؟ العريس الذي يضمن لي شقة وحياة مستقرة سعيدة مثل بقية الفتيات؟
ثم اتجهت بنظرها إليّ وقالت:
– وأنت يا شادي، يبدو لي أنك غير متزوج، أنت تحب المسيح، أليس كذلك؟
قلت لها:
– نعم، أنني أحب المسيح من كل قلبي.
قالت باستخفاف:
– أول مرة أسمع صوتك، حسنًا، لماذا لا تقدم له هذه الخدمة، توجد فتاة تريد أن تترك حظيرة المسيح، إنها خدمة لن ينساها المسيح لك.
– لست أفهم ما تقصدين.
– تزوجني… أنا لا أعلم ظروفك، ولكني راضية بك، لماذا لا تقدم هذه الخدمة لسيدك؟
نظرت لها ولست أدري ما الذي جعلني أنزع خجلي عني، فقلت لها:
– لقد بعت يسوع من أجل عريس، ما الذي يضمن لي أنك لن تبيعيني لأجل أي شيء أو شخص آخر؟! إنك يا فتاتي من نفس نوعية يهوذا الإسخريوطي الذي باع سيده بثلاثين من الفضة، اسمحي أن أقول لك أنك حتى الثلاثين من الفضة لن تناليها، تمامًا مثل يهوذا، إنك لم تكوني أبدًا ضمن حظيرة المسيح، إنها البطاقة فقط هي الدليل الوحيد على كونك مسيحية، ولن يضر المسيح أبدًا أن تفقدي هويتك.
***
خرجنا من هذا البيت وأنا مليء بالمشاعر المتناقضة، وقد شعر كل واحد منا أنه تلقى عدة صفعات على وجهه نتيجة هذه الزيارة، كانت ترن في أذني كلمات عابرة قالتها: ” منذ أربعة أعوام لم يسأل أحد عني…”
نظرت إلى الأخ أنور وقلت له:
– يبدو أننا اعتدنا زيارة البيوت ذات المكيفات والمراوح، أما هذه البيوت فنادرًا ما نتذكرها.
فرد الأخ أنور وقال:
– إنه الاستسهال يا شادي، لقد اعتدنا الشيء السهل والخدمة السهلة، في هذا المكان فقط يوجد مئات البيوت ومئات القصص يمكن أن نعاينها … هذه الأرض بور ولم يقم أحد بإصلاحها لأكثر من أربع سنوات.
لم أتمالك نفسي فدمعت عيناي، بينما الأخ أنور يسترسل:
– ولكني عاتب عليك يا شادي.
– لماذا؟
– لقد اتفقنا ألا تتكلم … لكنك في آخر الزيارة تكلمت أنت فأفسدت كل شيء، لقد قطعت كل أمل لها عندما شبهتها بيهوذا، لقد كنت أستطيع تدبير عريس لها.
ابتسمت في مرارة:
– لكي نحفظ ماء وجوهنا؟
– أجل، وأيضًا لأجلها، لكي تجد الفرصة وترجع وتتوب، إن الطريق الذي تسير فيه يصعب العودة منه تمامًا.
– ولكن أنا لم أستطع أن أحتمل أن شخصًا يملي على المسيح شروطه لكي يدخل في حياته … ثم ما ذنب ذلك العريس الذي سوف تقدمه لها وما الوسيلة التي سوف تقنعه بها أن يتزوجها، إنه الاحتياج أيضًا، أليس كذلك؟ ألم يحن الوقت لنر الأمور كما يريدنا المسيح أن نراها.
***
تركت سميرة تبعية المسيح منذ عدة أعوام، وهي الآن بمثابة خادمة ذليلة لزوجها وزوجته الأولى والأربعة أولاد، تذوق الذل والهوان كل يوم.
لم تحصل على لقب سيدة منزل أبدًا، لم تشعر بمعنى السعادة التي كانت تتمناها، ودائمًا تقول في نفسها:
– أخطأت إذ أسلمت دمًا بريئًا.
ولكن لم يعد للبكاء معنى … كانت تبصر.

المصدر: كتاب السباق الأخير

للكاتب :عماد حنا

مواضيع تهمك
شارك اصدقائك