لماذا انطفأت الشمعة؟

Roma

لماذا انطفأت الشمعة؟

اقترب موعد الامتحانات، لذلك قررت أن أعلن عن حالة الطوارئ في المنزل، إذ يجب أن أستثمر ما تبقى من الوقت جيدًا… كفاني ما أضعته من الوقت طوال العام، يجب أن أعوض ما فاتني، لذلك بدأت أنظم لنفسي جدولًا لكي أستطيع أن أنقذ ما يمكن انقاذه، يا إلهي! لقد كانت هذه السنة السوداء حاملة الأحداث المؤلمة عليَّ وعلى أسرتي، والآن يجب أن أتناسى تلك الأحداث حتى يمر ذلك العام على خير.

وأنا أستعد لبداية الاستذكار حدث شيء لم أضعه في تخطيطي… لقد انقطع التيار الكهربائي، كما لو كان في تحالف مع بقية الأحداث التي مررنا بها…

عم الظلام أرجاء المنزل… وفي استسلام للواقع، أحضرت شمعة وأشعلتها، لعلي أتمكن من الاستذكار على ضوؤها، وضعت الشمعة على المكتب وقربت منها كتابي لكي أتمكن من القراءة… لكني لم أقرأ، فقد وجدت نفسي أحدق في تلك الشمعة، لقد كانت تحترق ببطيء… منظرها كئيب… أعادني للوراء لأتذكر أحداثًا مضت… أحداثًا قديمة عمرها سنوات… تلك الأحداث مرت كشريط سينمائي في مخيلتي… ذلك الفيلم الذي رأيته آلاف المرات، ومع ذلك ذهني لا يمل من تكراره.

بطل الفيلم هو أبي، المشهد الأول الذي رأيته كنت فيه صغيرًا، كنت أراه كل يوم يخرج في الصباح… لا أعلم أين يذهب ولماذا، ثم يأتي إلينا بعد الظهر، فيظهر كل شوق ولهفة لرؤيتنا… كنت وإخوتي ننتظر الساعة حتى تدق الثانية، ثم تبدأ آذاننا المتلهفة تُصغي إلى الباب والأصوات التي وراءه، حتى نسمع صوت أقدام آتية من الخارج مع صوت نحنحة خفيفة، وتنطلق أصواتنا الصغيرة في فرح معلنة قدومه إلينا… وعندما يفتح الباب، نستقبله ملكًا متوجًا على أسرتنا الصغيرة، ثم نجلس جميعًا على مائدة الغذاء في محبة… كانت مملكتنا الصغيرة تضم خمسة أفراد، ملكها أبي، ونائبها أمي، ثم ثلاثة أطفال متقاربين في العمر.

أما الملك فكان محبًا عطوفًا، شديد الهدوء والصبر معنا… كان دائم الابتسامة، حريصًا على تلبية كافة احتياجاتنا، لذلك نشأنا جميعًا، والدتي ونحن، على هذه المحبة… نستمد من تفاؤله الدائم تفاؤلنا وثقته في أن كل شيء في حياتنا سيؤول إلى الأفضل.

ويمر المشهد لأرى الشمعة وقد احترق جزءًا منها لكي تضيء لنا… فأعود لأرى مشهدًا آخر… ونحن جالسون على الفراش نلعب لعبة جديدة… وشمعتنا المضيئة (أبي) جالسًا معنا… يلعب في سعادة ومرح… يضع في قلوبنا ابتسامة رائعة ترتسم على شفاه كل واحد منا، فاستطاع أن يعلمنا معنى الصداقة الحقيقية… فجعل منا أصدقاء له ومن بعضنا أصدقاء لبعض… وصارت أمي وإخوتي أقرب الأصدقاء إلى قلبي.

ويمر المشهد… ولا زالت عيناي تحدقان في الشمعة، والشمعة تحترق، ليأتي في مخيلتي مشهدًا آخرًا… أرى ذلك الملك -ملك أسرتنا الصغيرة وشمعتها المضيئة- يجلس بجانب إخوتي يستذكر لهم دروسهم، ثم يجلس بجانبي يحثني على الاستذكار، لقد كان يعرف إنني لم أكن مقبلًا على التعليم مثل إخوتي، ولم أكن متفوقًا مثلهم، لكنه في صبر تحمل عدم تفوقي وراح يحثني على الاستذكار ويشجعني كما يشجع إخوتي، إلى أن أثمرت مجهوداته فالتحقت أخواتي بكلية الطب، أتذكر وهو يأتي إلينا عقب كل نتيجة، ويزف إلينا بشرى نجاح واحدة من أخواتي… كان يهلل من الفرح ويشكر ويمجد الله… هو أول من علمنا أن نشكر إلهنا على عطاياه.. وكيف نستسلم بالإيمان لله عند حدوث أمر محزن… لم يعظنا مرة واحدة في حياته… ولكن حياته كانت أكبر عظة لنا.

صلاته الهادئة وعدم تضجره من المعيشة الصعبة، حرصه الدائم على ممارسة العبادة دون تأخير ومهما كانت المشاغل، محبته المتدفقة أرتنا كيف يمكن أن تكون محبة الآب السماوي لنا.

أما أنا فوصلت إلى الثانوية العامة (توجيهي) وتعثرت سنتين، وهو ينظر إليَّ بحزن، تلك النظرة كانت تؤلمني وتجرح قلبي، أن أرى ذلك الملك العظيم، ملك أسرتنا الصغيرة، حزينًا لأجلي، ولكنه لم يشكك مرة واحدة في قدرتي على التحصيل، بل أعطاني ثقة كنت أفتقدها في نفسي، ثقة جعلتني أحاول دون يأس للعام الثالث، فأعطاني الدافع للنجاح، وهو أن أراه سعيدًا… كنت أنظر إليه خلسة وهو في المخدع، فأسمعه يضع مستقبلي أمام الله، ويطلب منه أن يستلم حياتي ومستقبلي، كنت أرى من خلال صلاته دموعه تتعانق مع إيمانه، لم أتذكر أبدًا أنه قال لي كلمة سيئة، بل هو لم ينصحني حتى بالاستذكار، ثقة مطلقة وضعها فيَّ جعلت مني رجلًا أتحمل مسؤوليتي، وكان يقول في ثقة أن هذا العام هو عام التفوق بالنسبة لي… وما قاله حدث ودخلت كلية التجارة… كم كانت فرحته عظيمة وهو يسمع نتيجتي وارتفاع مستواي عن مستوى الأعوام السابقة بمئة درجة كاملة.

ومن هذه اللحظة بدأت حياتنا رحلة جديدة ذات طابع مختلف تستلزم طاقة وجهدًا مضاعفًا، أرى الشمعة وهي تعطي نورًا، لكنها في سبيل هذا، تحترق هي.

لازالت المشاهد تتوالى، فها هي أختي الكبرى مُقبلة على الزواج وستدخل حياة جديدة، كان سعيدًا على الرغم من كل الأعباء، لقد كان مؤمنًا أن الله يدبر كل الاحتياجات، لذلك لم يتذمر مرة واحدة، وبينما كنا نحن ننصبه ملكًا علينا، كان هو يضع أمامه الملك الأعظم، الله، ليكون سيدًا على تلك الأسرة الصغيرة، لذلك لم أراه ولو مرة واحدة خائفًا أو متضجرًا، وكانت فرحته كبيرة وهو يرى ابنته الكبرى في فستان الفرح، وقتها قال: ” لقد أتممت ثلث رسالتي، وليساعدني الله على أن أكمل ما تبقى”.

واكتملت فرحته وهو يرى حفيده الأول، كل هذا وهو ينظر إلينا أنا وأختي في شوق بالغ لكي يتم رسالته معنا أيضًا.

وهنا قاربت الأحداث على النهاية، وتُكتب كلمة النهاية على ذلك الشريط السينمائي الذي دار بمخيلتي، لم أتمالك نفسي، فبكيت وأنا أتذكر ذلك المشهد الأخير الذي فيه رأيت شمعتنا وهي تخبو، ولكن المشهد توقف على صوت والدتي وهي تناديني وتقول لي: “ماذا جرى لك؟ لقد انطفأت الشمعة، هل سنبقى هكذا في ظلام؟”.

نظرت ورأيت أن الشمعة التي كانت تضيء منزلنا احترقت بالكامل، أسرعت أمسح دموعي وأنا أقول لها: “حاضر يا أمي… الشمعة احترقت ولا أعرف لماذا احترقت هكذا سريعًا؟ إنني لازلت أحتاج إليها… ولكن… الآن علي أن أضيء شمعة جديدة”.

المرجع من كتاب السباق الأخير – الكاتب عماد حنا 

 

 

مواضيع تهمك
شارك اصدقائك