عم صابر

william

عـــم صــابـــر

كلنا نسير في قطار واحد، هدفنا واحد، ومصيرنا واحد، مهما اختلفت أشكالنا، وتعددت مذاهبنا، لا تتسرع في اتهام الآخر، فهو رفيق الدرب والمصير، وفي النهاية كلنا نحتاج إلى “مجد الله”.
اقتربت الساعة من السادسة صباحًا، ووسط الصمت سُمع وقع أقدام ثقيلة لرجل نشيط يسير في طريقه إلى محطة القطار، يهمهم بكلمات أشبه بترنيمة جميلة، وإن كان بصوت من الصعب أن يكون خافتًا أو جميلًا.
يدخل الرجل المحطة بجلبابه الطويل والبالطو العتيق الذي يحميه من برد الشتاء، يقدم تحية الصباح على كل من في المحطة بابتسامة كبيرة، ويتوجه إلى حيث يقف قطار الريف على رصيف المحطة الممتلئ بالموظفين الذاهبين إلى عملهم، فيصعد إلى القطار ويتفقد عرباته، وبوجهه الضاحك يصافح الكمسري:
– صباح الخير يا عم “أحمد”.
– صباح الورد يا عم “صابر”، ما الذي أتى بك في هذا اليوم؟
يضحك عم صابر ويقول:
– الوردية.
– حتى اليوم يا عم “صابر”؟!
ويضـحك عم “صابر” دون تعليق، ويستمر في طريقه يختبر ويتفقد العربات.
***
عم صابر يعمل مخبـر سري … وعلى الرغم من كلمة سري التـي تلتصق بكلمة مخبـر دائمًا، إلا أن جميع من لهم علاقة بالقطار بما فيهم الركاب يعرفون ذلك، فطوال ثلاثين عامًا، يستيقظ عم صابر في الصباح، وبنفس النشاط يلبس جلبابه النظيف دائمًا، ويضع عليه البالطو القديم في الشتاء، ويلبس طربوشًا تركيًا عفى عليه الزمن، ويذهب إلى المحطة يركب قطار الريف الذي يتحرك من بنـي سويف يوميًا في تمام الساعة السادسة، يتفقد القطار وركابه، ثم يجلس مكانه إلى أن تأتي محطة المنيا التي هي نهاية الخط بالنسبة لقطار الريف، فينـزل من القطار ويراقب نزول الركاب إلى أن يتجه القطار إلى مخزنه، ويتجه هو بدوره إلى شرطة المحطة بالمنيا يعطي التمام، ويقول للضابط المناوب:
– كل شيء تمام يا أفندم.
في تمام الساعة الثانية عشر ظهرًا يحدث نفس المشوار بالعكس من محطة المنيا إلى محطة بني سويف، وبعدها ينتهي يومه، ويرجع إلى بيته.
لا يذكر عم “صابر” حدوث أي مشاكل طوال الثلاثين عامًا التـي مضت، إلا من بعض المشاجرات البسيطة التـي سرعان ما يتدخل لفضها، ونظرًا لضخامة جسمه، فسرعان ما تنفض هذه المشاجرات بسهولة، وذلك غالبًا خوفًا منه؛ فعم صابر له وجه جامد مخيف، بالإضافة إلى جسمه الضـخم، ولو يعرف المتشاجرون أن له قلب طفل به عرف المسيح وسلم حياته له منذ سنوات عديدة، وأنه لا يستطيع أن يؤذي أحدًا، ربما لكان من الصعب أن تنفض المشاكل، ولكن الله أعطاه هيبة تمكنه من حسم الأمور كما يريد دائمًا.
***
في ذلك اليوم لم يتوقع أحد حضور عم صابر، حتى زوجته عندما رأته يلبس ملابسه في الصباح سألته:
– أين تذهب يا صابر؟!
– كالمعتاد … إلى عملي.
– في هذا اليوم!!
– وما الغريب في هذا؟ إننـي سأكون هنا في تمام الساعة الثالثة، والعرس في السابعة … ولا أعمل أي شيء خلال هذا الوقت.
– ولكنه إكليل ابنك يا صابر … ربما احتاج إلى شيء.
– لن يحتاج إلى شيء بمشيئة الله، وهي فرصة أيضًا لكي أؤكد على أحمد الكمسري لكي يحضر ويشاركنا فرحنا.
نظرت إليه بعدم اقتناع، ثم عادت إلى مطبخها تعد الطعام هي وجاراتها وصديقاتها في الكنيسة، استعدادًا لعرس ابنها البكر يوئيل.
***
مضت رحلة الذهاب إلى المنيا بسلام، وفي تمام الساعة الثانية عشر، انطلق القطار من المنيا عائدًا إلى بنـي سويف، أخذ عم صابر كعادته يتفقد القطار ويسلم على الجميع، فغالبًا ذلك القطار يعرف ركابه بعضهم بعضًا بسبب تكرار استخدامه، فأغلبهم موظفين منذ سنوات في أماكن قريبة، ولكن تستدعي ركوب هذا القطار في مأمورياتهم المختلفة، فأصبحوا جميعًا يعرفون بعضهم البعض ولو بالشكل فقط، وبعد أن تفقد عم صابر القطار ووصل إلى آخر عربة، أخذ أقرب مقعد وجلس وهو سارح.
اليوم هو يوم عرس يوئيل الابن الأكبـر … أخذ صابر يتذكر يوم ميلاده ويسير بقطار عمره من طفولة لمراهقة لشباب، حتـى وصل به قطار الزمن لهذا اليوم الذي سوف يزوجه فيه.
يوئيل … ذلك الولد الطيب المثابر الذي درس حتـى حصل على بكالوريوس في التجارة، وها هو الآن يعمل محاسب في هيئة السكك الحديدية – بمساعدة والده طبعًا – وأيضًا الذي يملأ الكنيسة نشاطًا وخدمة، لقد أصبح ليوئيل علاقة بالسيد المسيح وبخدمته منذ الصغر، منذ الصغر تعلم يوئيل كيف يثق في الله، تمامًا كما رأى صابر يعيش، ورأى بساطة إيمانه، لقد علمه صابر كيف يحب الرب دون أي وعظ.
حتى جاء الوقت الذي سلم نفسه بالكامل للرب وصار ابنًا له، وكان بعد فتـى، وها هو الآن خادمًا أيضًا له، وها قد وصل صابر إلى نهاية المسؤولية تجاهه، بزواجه من فتاة تحب بدورها الرب وتخدم معه في الكنيسة.
أخذ صابر يتذكر الأحداث ويبتسم، يتذكر زوجته التي ضـجرت عندما عرفت أنه سيخرج في هذا الصباح، وودعته على الباب وهي تقول له:
– لا تتأخر اليوم يا صابر.
أخذ يبتسم … كيف يتأخر واللـحظة التي انتظرها طويلًا سوف يراها في تمام الساعة السابعة؟
واتسعت ابتسامته، فكيف يصل مبكرًا وهو مرتبط بقطار له مواعيد؟
أخرجه عن حالة الصمت والتفكيـر هذه صديقه الكمسري وهو يربت على كتفه:
– عم صابر … عم صابر … إلى أين ذهبت؟
انتفض عم صابر.
– من؟! … أحمد؟
– نعم أحمد … لماذا حضرت اليوم يا صابر؟ ألا يمكن أن يحتاجوا لك في البيت؟!
قال صابر:
– في أي شيء؟! الدعاوى وزعناها منذ زمن، وأصدقاء يوئيل في الكنيسة يساعدونه ولا يتركونه يفعل شيئًا، والطعام جاء، والجيـران ونساء الكنيسة يساعدون زوجتـي في العمل، كل شيء جاهز، فلماذا لا أحضر إلى عملي؟ بالمناسبة … لا تتأخر … في تمام الساعة السابعة تكون في الكنيسة وبعدها نرجع معًا إلى البيت.
ابتسم أحمد الكمسري وقال:
– معقولة أتأخر؟ يوئيل هذا ابنـي … ثم كيف أتأخر عن اللحم والحلوى والطعام الجميل، قل لي، هل تحتاج إلى أي شيء؟
ضحك الرجلان وقال الكمسري:
– سأقوم بلفة أخرى على القطار، ربما يكون أحد الركاب قد ركب القطار في الفترة الماضية.
– وأنا أيضًا أقوم أتفقد تلك العربة.
***
في العادة تكون العربة الأخيـرة بها قلة من الركاب؛ نظرًا لبعدها عن رصيف المحطة، فأخذ ينظر صابر إلى الركاب والرفوف، حتـى لفت نظره كيس أسود غريب الشكل يقبع وحده منفردًا على رف من الرفوف، وببساطة سأل:
– لمن هذا الكيس؟!
ولم يرد أحد.
وبصوت جهوري لفت انتباه جميع الركاب إلى السؤال الذي أعاد سؤاله مرة أخرى:
– قلت لمن هذا الكيس؟
نظر الجميع إلى الكيس ولم يرد أحد.
أصبحت النغمة التي يتكلم بها أكثر حدة وأكثر توترًا:
– ألا يوجد صاحب لهذا الكيس؟!
كل من في العربة أخذ ينظر في قلق إلى الكيس كمن ينظر إلى شبح، وفجأة صرخت سيدة عجوز:
– ربما كان به قنبلة!
كان الركاب كأنهم انتظروا هذا التعليق، ليفزع الجميع وينتفضوا من أماكنهم ويتحركوا جميعًا بعيدًا عن الكيس، ليقفوا بالقرب من باب القطار المفتوح وعيونهم تنظر إلى الكيس في رعب وفزع واضحين.
حاول صابر أن يبدو متماسكًا فقال يلوم السيدة التي أخافت الركاب:
– لماذا تقولين هكذا؟! ربما كيس عادي نسيه أحد.
قالت سيدة أخرى:
– أجل … تذكرت … كان يوجد رجلًا شكله مريب يلبس جلبابًا أبيض وملتح، كان يحمل هذا الكيس ووضعه فوق هذا الرف ورحل.
وهنا أرتفع صوت شاب:
– أنا لم أرحل … إنني لا زلت موجودًا، والكيس الذي أحمله لم يكن أسود وهو لا يزال في يدي.
نظر إليه رجل وقال:
– أنت يا ابن ال … تريد أن تفجر القطار؟! اذهب! خذ كيسك وارحل من هنا!
قال الملتحي في رعب:
– كلا! لن أمسك بهذا الكيس … أنا معكم في هذه العربة فكيف أفجر عربة أنا فيها؟!
نظر الجميع إليه والغضب باد على الوجوه، وقد تأكدوا أن الكيس به شيء لأنه يرفض أن يفتشه، وحاولوا أن ينقضوا عليه ولكن صابر حال دون هذا الأمر بجسمه الضخم وكلامه الحازم:
– كفوا عنه يا جماعة … إنه معنا في نفس الخطر.
كل هذا النقاش جعل الأمر أكثر توترًا.
الجميع خائف … بل مرعوب … والقطار يسير متجهًا إلى ناحية آخر محطة، بني سويف، صرخت سيدة من الرعب:
– إنها قنبلة بالتأكيد … الآن أنا أسمع دقاتها … ستنفجر الآن!
صرخ الجميع أكثـر … والرعب باد على الوجوه أكثـر … أخذ صابر يتذكر فرح ابنه وعائلته التي تنتظر … تذكر زوجته وهي توصيه:
– لا تتأخر اليوم يا صابر.
يبدو أنه لن يجد الوقت ليرجع.
أعاده صوت الناس إلى الواقع … إذ صرخ أحدهم:
– أين الأمن؟ ألا يوجد أمن هنا؟
وكأنما تذكر صابر أنه هو ممثل للأمن في هذه العربة وعليه أن يفعل شيئًا … تقدم إلى الأمام … ومد يده إلى الكيس، أوقفه صوت سيدة تصرخ:
– احترس! سوف تنفجر!
نظر إليها بغضب وقال:
– اسكتي يا امرأة!
ومن جديد مد يده المرتبكة يريد أن يمسك بالكيس، ولم يعرف لماذا تذكر في هذا الوقت يسوع المصلوب لأجل الجميع فصرخ:
– ليس العبد أفضل من سيده.
وأمسك بالكيس في قوة واتجه إلى أقرب نافذة يريد أن يرمي بالكيس بعيدًا، فوجئ أن القطار قد دخل مدينة بني سويف، وإذا انفجرت القنبلة فبالتأكيد سوف تؤذي كثيرين، احتضن الكيس بقوة، كان كمن يرغب في أن يحتوي القنبلة داخله، واتجه نحو الباب يريد أن يرمي نفسه بالكيس من القطار، فإذا حدث انفجار يحتويه هو.
صورة ابنه وزفافه لا تفارقه، وصورة زوجته وهي توصيه بأن لا يتأخر لا تفارقه كذلك، يحتضن الكيس في صدره ويقتـرب من الباب وسط صرخات الركاب الفزعة.
يتحسس الكيس … بداخله علبة، هذا ليس ملمس قنبلة، توقف.
وبهدوء أدخل يده داخل الكيس… فتح العلبة، وأدخل يده … وأخرج يده وهي ممتلئة بالعسل الأسود.
***
تمازجت ضـحكات الركاب مع بكائهم، وجلس الجميع بعد أن انتابتهم حالة من الهستيريا بين ضحك وبكاء.
كل هذا من أجل وهم!
صوت في داخل عم صابر … نعم، ليس العبد أفضل من سيده، ولكن رحمة سيده أوسع، يقف القطار في محطة بني سويف، ينزل عم صابر المحطة وهو يحمل العسل مبتسمًا.
– هذا رزق ابني يوئيل.
يتجه إلى شرطة المحطة ويعطي التمام للضابط المناوب ويعطي تقريره.
– تمام يا حضرة الضابط … كل شيء على القطار تمام.
ويتجه سريعًا إلى منزله ليلحق بفرح ابنه.

المصدر :كتاب السباق الأخير

للكاتب :عماد حنا

مواضيع تهمك
شارك اصدقائك