المطارد السماوي

Roma

المطارد السماوي

 كان كل يوم جمعة يأتي ذلك الشاب الذي لم يتجاوز العشرين من عمره ليقف خلف جامع الحسين بالقرب من منطقة (سقف السيل) في السوق الكبير بعمان، ويفرش على الأرض بضاعته التي كانت عبارة عن مجموعة من الكتب وأشرطة الفيديو والكاسيت، ويبدأ في الإعلان عن هذه البضاعة بلهجته المصرية الواضحة.

وجامع الحسين القابع في منطقة شعبية في وسط مدينة عمان الأردنية، هو من أكبر الجوامع التي في المدينة، وفي كل يوم جمعة، اعتاد جمهور المصلين أن يخرج من الجامع عقب الصلاة، فيجد الكثير من أصحاب المكتبات والباعة المتجولين مفترشين ببضاعتهم أمام الجامع يعلنون عنها، وهم ما بين بائع للعطور وبائع للبخور وبائع للأعشاب الطبية، قد يكون هناك أيضًا بائعًا للكتب الإسلامية، التي في العادة تكون إما للداعية الإسلامي “أحمد ديدات” أو الشيخ “الشعراوي”، بالإضافة إلى بائع أشرطة الكاسيت، التي إما أن تكون القرآن الكريم، أو سلسلة الدروس الدينية التي يلقيها الداعية الإسلامي “عمرو خالد”.

هذا السوق الكبير كان حول الجامع  وأمامه، ولكن إذا سرت قليلًا من حوله ودرت خلف سور الجامع، ستجد ذلك المصري وحوله بضاعته، وكان يعلن عن هذه البضاعة على الملأ:

اقرأ كتاب الحياة… الكتاب المقدس… اقرأ الإنجيل الشريف لتتعرف على أعظم شخصية عرفها التاريخ، شاهد فيلم “المسيح 

  • عيسى بن مريم”، ناطق بالعربية، الكردية، الآشورية، الفارسية، أو اللهجة المصرية.

كان يبيع بضاعته بأثمان رخيصة  جدًا، وكان كثير من الناس يأتون ليشاهدوا بضاعته، البعض يرى باهتمام، والبعض الآخر ينعته بأحقر الصفات  مثل: (أيها الكافر، الملعون،…إلخ)، ومنهم من يبالغ فيقول: (أيها النصراني النجس)، ولكنه كان يستقبل الأمر بابتسامة ويستمر في الإعلان عن بضاعته، ويجيب عن أي سؤال ببساطة وهدوء، وفي الواقع كان دائمًا في خلال ساعة أو ساعتين يغادر المكان وقد باع بضاعته بالكامل.

***

في هذه الأثناء، اعتاد شاب آخر أن يراقب ذلك الشاب بفضول شديد، كان يراقبه منذ بضعة أسابيع، يراقبه وهو يبيع بضاعته وأيضًا أسلوبه في التحدث إلى الناس والرد على استفساراتهم، قال محدثًا نفسه:

  • لقد رأيتك متأخرًا يا عزيزي، بعد أن كرهت الدماء والقتل، لو رأيتك قبل سنتين أو ثلاث، لكان لي معك شأن آخر.

ولكن هذه الكلمات لم تكن وحدها كافية، لقد رغب ذلك الشـخص أن يتحدث إلى بائع الكتب الدينية، ولكنه كان يؤجل هذا الموضوع أسبوع بعد أسبوع، ولكن وصل إلى الوضع الذي فيه لا يستطيع أن يكتم رغبته في التحدث إليه.

اتجه إليه ثم قال له:

  • اعطني من هذا.

    التفت إليه البائع الشاب ليـرى شابًا أسمر ملتحي بجلباب أبيض نظيف من تحتها يظهر بنطلون رمادي نظيف ولكنه غيـر مكوي، ويلبس في قدمه شبشب (شـحاطة) كان من المفتـرض أن تحال إلى التقاعد منذ زمن، وعلى الرغم من النبـرة العدائية التي تكلم بها السائل، إلا أن البائع تجاهل فظاظة الطلب، فقد اعتاد على مثل هذه الشخصيات، وقال له:

    • ماذا تريد؟ الكتاب أم شريط الفيديو؟
    • الاثنان… عن ماذا يحكي الشريط؟
    • قصة حياة السيد المسيح بحسب الإنجيل كما رواه لوقا.

    نظر إليه الرجل بعيون متحدية ثم قال:

    • أليس من الحرام أن يتخذ أحد الأشخاص صورة الأنبياء؟

    ابتسم له البائع وقال:

    • ولماذا؟ إن المسيح كلمة الله، ومع ذلك شابهنا نحن البشر، وهو بنفسه قال إنه ينبغي علينا أن نكون متمثلين به مشابهين صورته، يا ليتنا جميعًا يا عزيزي نتشبه بالمسيح! لا في الصورة فقط، بل في كل شيء.

    لم يعلق الرجل على ما قال، ولكنه بدأ يستغفر ربه في صوت بدا خافتًا، ولكنه من الواضح أنه أيضًا يريد أن يُسمعه إلى صاحبنا، وفي النهاية قال:

    • لابد أن أتحدث معك.
    • على الرحب والسعة، إننا نتحدث الآن.
    • بل أريد أن أتحدث معك على انفراد، أريد أن أسمع منك عن المسيح، وتعرف أنت أيضًا من أنا.
      • أنت مصري … أليس كذلك؟
      • أجل.
      • إذًا فأنت ابن عمـي، لقد اعتدت كل يوم جمعة أن أجلس مع الكثيـر من الأصدقاء ونتجاذب أطراف الحديث في حوالي الساعة الثالثة عصرًا، لماذا لا تشاركنا الحضور؟!
      • أريد أن أحدثك وحدك.
      • إذن الساعة الخامسة من مساء اليوم نلتقي في قهوة في رغدان، وبعدها أصطحبك على البيت ونحكي كما تريد.

        • اتفقنا! سأنتظرك.
    • لم يستطع بائع الكتب أن يخفي انزعاجه من هذا اللقاء، ولكنه كعادته صلى إلى الله طالبًا حكمة في الكلام، وفي الموعد اتجه إلى المكان المتفق عليه ليجد الرجل واقف على مدخل القهوة ينتظره، فقال له:

      • مرحبًا بك … هل تشرب شيئًا أم ننطلق؟

      نظر ذو الجلباب الأبيض إلى المكان بتعالٍ واحتقار وقال:

      • بل ننطلق، لا أحب أن أجلس في هذه الأماكن.

      ابتسم الشاب وأوقف تاكسي ودعي صاحبه، وقال:

      • حسنًا لنرحل.
      • أين سنذهب؟
      • إلى كنيسة قريبة، هناك مكان نستطيع أن نجلس فيه بهدوء ونحكي مثلما تريد.
      • لم يرحب الشاب كثيرًا بالفكرة، فتساءل معترضًا:

        • ألا يوجد مكان غير هذا؟!

        فابتسم الشاب وقال:

        • وهل هناك أفضل من هذا المكان؟! إنني يا عزيزي أعرف أنه لا يمكن أن أجلس في جامع وإلا كنت دعيت نفسي هناك، ولكن في الكنيسة، الله يدعو الجميع إلى هناك بدون تفرقة أو تفضيل.
        • الطهارة واجبة لدخول بيوت الله، أم أنك لا تعتبر الكنيسة بيتًا لله؟!

        قالها بسخرية محاولًا النيل من الشاب، ولكن الشاب تجاهل السـخرية وقال:  

        • يا عزيزي… الطهارة واجبة، ولكن الوحيد الذي يقدر أن يطهر هو الله، الماء يمكن أن يغسل اليدين، ولكن لا يمكن أن يصل إلى القلب، ألست معي؟

        لم يرد صاحبنا، وبقيا صامتين طوال المسافة، حتى وصلا إلى مبنى قديم لكنيسة قديمة الطراز، فقال الشاب:

        • ها قد وصلنا، لقد نسيت … بماذا أدعوك؟
        • خالد… وأنت؟
        • يمكن أن تسميني الناجي؛ فقد كنت في حكم الميت ونجوت من هذا الحكم فصرت الناجي، هل تقرأ لنجيب محفوظ وتعرف شخصية الناجي؟
        • هبط خالد من التاكسي وهو يقول:

          • لا أقرأ لهذا الكافر… ولم آتي معك لتعرفني شخصيات أدبية، لقد أردت أن أعرف شخصية المسيح بحسب أفكاركم.
          • وسنعرفها اليوم، وإذا أردت يمكننا أن نلتقي عدة مرات لكي نعرف كل شيء.

          ودخلا الاثنان إلى الكنيسة الفارغة.

          استمرت لقاءات الناجي وخالد قرابة العام، فيها عرف خالد عن المسيح، بل وعرف المسيح…  شاهد الشريط في هذا المكان، وقرأ من الكتاب المقدس، ولم يستطع أن يبتعد عن تلك المحبة التي جاءت لتغير البشر فسلم حياته بالكامل لمن أحبه، وفي وسط هذه الدراسات، عرف الناجي الكثير من حياة هذا الشخص الذي افتقدته نعمة الله، ففي مرة من المرات كان خالد حينها هو من يريد أن يتكلم، وتركه الناجي ليحكي قصة حياته فقال: “نشأت في منزل مع ثلاثة أخوة رجال، أحببنا الله كثيرًا، وكنا نذهب إلى الجامع نحن الأربعة لنبحث عن الحق ونرضي الله سبحانه، تعرفنا على مجموعة من الشبان قالوا إن الحق معهم، وهناك عرفنا معنى كلمة جهاد، هل تعرف معناها؟ إن معناها بالنسبة لنا أن نحلل شخصية كل إنسان، وندينه كما الله ونحكم على كل من نراه كافرًا بالموت، وبهذا كنا نرى أن الله يحبنا ويثني علينا، ونشعر براحة في الضمير عندما نخلص العالم من شرور الكفرة، كنا نعيش من الهجمات التي ننظمها على باعة الذهب والمجوهرات، سرقنا الكثير والكثير، وشاهدت من الدماء الكثير والكثير، إلى أن سالت دماء إخوتي الواحد تلو الآخر، أولهم من رصاص الشرطة وهي تطاردنا،

          وثانيهم من رصاص أمير الجماعة باعتباره خائن، والثالث هرب ولم أعرف أين هو حتى وجدوه ميتًا في الصحراء ولا أعرف كيف قضى نحبه، كرهت القتل وكرهت الجماعة، في البداية أردنا أن نظهر محبتنا لله بالجهاد في سبيله، وعندما دخلنا أغوار تلك الجماعة كرهنا كل ما نفعل، وفي هدوء رحلت من بلدي إلى تلك المدينة التي شعرت فيها بالسلام، وذهبت إلى الجامع طالبًا أن أتصالح مع نفسي ومع الله، أردت أن أشعر بالسلام، ركعت إلى الله كثيرًا وطلبت معرفته معرفة حقيقية، وفي كل يوم جمعة كنت أراك وأنت تقف، وقتها تساءلت… هل هي شجاعة منك؟ أم حماقة؟ أم لأن هذه البلد تعطي من الحرية التي تسمح لك بأن تفعل ذلك؟ لم أجد إجابة، ولكن تابعت ما تفعل، رأيتك تتكلم عن صانع السلام… وأنا طلبت السلام من الله، هل أرسلك لي؟ ربما… بل أكيد! فدائمًا تنتهي الصلاة في الجامع وتقودني قدماي لأنتظرك، وأراقب تحركاتك إلى أن تمشي، من داخلي ينبعث صوت: كلمه … منه ستعرف السلام، وأنا أقول لا … وأصلي في كل سجود إلى الله أطلب معرفته أكثر… فأجد صورتك أمامي …”

          عزيزي لقد طاردني الله، حاولت أن أهرب منه، وفي نفس الوقت أن أجده، ولكنه هو أرسلك لي، ومن خلالك وجدني، وعندما وجدني وجدت أنا بدوري السلام الحقيقي، فأسلمت وجهي وقلبي له.

        • المصدر :كتاب السباق الأخير

          للكاتب :عماد حنا

مواضيع تهمك
شارك اصدقائك