دعوته…فحرق بيتى

william

دعوته…فحرق بيتي 

كثيرًا ما نصرخ:
عدلها يأرب … أنقذني يأرب.
وننتظر من المولى أن يحل المشكلة ،أو أن يتدخل في حياتنا ليغير ظروفنا، ولكننا نجده يقلب الحياة رأسًا على عقب، وتتعمق المشاكل أكثر وأكثر!!
وتكون لدينا علامات استفهام كثيرة، دون أن ندري أنه يحلها بطريقته، فنجد أن حياتنا قُلبت رأسًا على عقب.
لم أكن أعي وأنا أصارع الأمواج ما حدث تمامًا… لقد كنت بحارًا في تلك التي كانت سفينة، ثم بقدرة قادر صارت مجرد أخشاب متناثرة عائمة على وجه المياه العاصفة … وعلى الرغم من مهنتي التي دامت أكثر من خمس عشرة سنة فأنا لم يسبق لي أن أصارع تلك الأمواج الوحشية من قبل … ولكن هذا ما حدث، وبينما أنا أصارع تلك الأمواج كان يصل لأذني أصوات ركاب السفينة الذين كانوا يتصارعون مثلي … وسرعان ما كنت أسمع تلك العبارة الشهيرة :
الحقوني … سأغرق.
ولم تمضي بضعة ساعات من العراك في الظلام، ومن سماع أصوات الاستغاثة، حتى بدأت تلك الأصوات تقل تدريجيًا، وخبطات الأيادي المرتاعة تخفت حدتها، وبعد قليل، لم أعد أسمع تلك المصارعات من جانبي، لم يكن هناك سوى صوت ارتطام يدي في المياه برتابة مخيفة، هل هدأت الأمواج؟ غالبًا … فأنا لا أرى شيئًا … وحل الصمت … هل انتهى الصراع؟! يبدو أن الأمواج هزمت الجميع، كادت يداي تخوران وأنا أشعر أني وحدي … ذلك الصمت المطبق مريع، يا إلهي! أشعر أني أخور … هل هي النهاية؟ … صرخت مثلما يفعل كل خائف ملتاع وبكل كياني..
– “يا إلهي… انقذني”.
لأجد ضوء الفجر وقد بدأت خيوطه تنسج نسيجها وسط ذلك الظلام، والعيون المتعبة المهتزة ترى تلك الخشبة البعيدة، والأمواج تتحول من الصخب إلى السكون، أريد أن أصل إلى تلك الخشبة، هل أستطيع؟ ساعدني يا رب، ها قد قاربت على الوصول… إنها على بعد ذراعًا واحدًا، سأصل، ومددت يدي لأمسك بمنقذي، ولم أشعر بشيء بعدها.
***
لم أعرف كم بقيت نائمًا، أو قل في غيبوبة، وعندما استيقظت، بقيت فترة أشعر أني في حلم، استيقظت ولا تزال في أذني صرخات الاستغاثة التي لا تزال تصرخ بداخلي، وعضلات يدي شعرت بها متضخمة ومشدودة بصورة جعلتني أجد صعوبة في فردها.
– ترى أين أنا؟
ذلك هو السؤال الأول الذي راودني، كان الشاطئ كبيرًا، لم أعرف إن كان هذا الشاطئ جزيرة وسط البحر أم ساحل من السواحل … نظرت من حولي، كان اللون الأصفر يسيطر على كل شيء، أهي صحراء؟ من بعيد وجدت بعض أشجار النخيل، حسنا، هناك طعام على الأقل.
لقد كنت مرتبكًا والأمور مشوشة عندي، والمجهود الذي بذلته طوال الليل أثر على تفكيري، جلست، من حولي وجدت كمية من الأخشاب التي كانت في يوم من الأيام مركب يحمل العديد والعديد من البضائع والركاب، لولا الظلام لصعد الكثير من الركاب على هذه الأخشاب واستسلموا لها مثلما فعلت أنا، وربما كنا أصبحنا كثيرون في هذا المكان، ولكنه الظلام اللعين الذي جعلنا جميعنا نتخبط دون أن نرى وسيلة الإنقاذ التي كانت تعوم بجابنا، ولولا إصراري على النجاة ومقاومتي حتى بزوغ الفجر، لما تمكنت من رؤية وسيلة الإنقاذ، وهناك شيء آخر…
لقد تذكرت تلك الصرخة اليائسة التي صرختها إلى إلهي، هل كانت هي السبب في النجاة؟ كثيرون كانوا يطلبون النجاة، والقلوب كانت تصرخ قبل الألسنة، فلماذا تكون صرختي هي السبب في نجاتي… أجل ربما هي.
ولم أتمالك نفسي، فسرعان ما تصاعد من قلبي صلاة شكر وامتنان لذلك الإله العظيم الذي أعبده وأضع ثقتي عليه، وعلى الرغم من أني كثيرًا ما كنت أتناساه في متاهات الحياة، إلا أنه هو يظل أمينًا ولا ينساني أبدًا، له شكري وسجودي، في الحقيقة لم أستطع السجود لأن عضلات قدماي لا تحملاني أصلًا.
***
لازلت في الخطر… فطالما أنا لا زلت في ذلك المكان المجهول البعيد عن السكان فأنا لازلت في خطر، ولكن بداخلي ذلك الشعور بالرفقة من إله عظيم، وأيضًا بداخلي الثقة في نجاتي من هذه المحنة … وعندما استعدت قواي قليلًا، بدأت أحاول الوقوف واستكشاف المكان، كان المكان مجردًا من كل وسائل المعيشة، ولابد من السير لأكثر من كيلو متر حتى أجد أشجار النخيل، وبعدها أتسلق تلك الأشجار لأحصل على ما يسد رمقي، إنه أمر متعب لشخص منهك القوى مثلي، ولكن لابد منه لأبقي على قيد الحياة.
في البداية كان بداخلي ثقة أن الأمر سيمر بسرعة، ولكني وجدت نفسى وقد انقضى أسبوعين والأمور لا تتغير، ولا يوجد حتى حيوان واحد أستطيع أن آكله أو أستأنس به، وأخاف من التوغل إلى داخل الجزيرة أكثر وتأتي سفينة وأفقد فرصة الإنقاذ، فكنت كل يوم أكتفي بالدخول إلى المكان الذي أستطيع أن آكل وأشرب فيه ثم أرجع بسرعة إلى الساحل… ويومًا بعد يوم بدأت ثقتي تهتز، وأتذكر قصة ذلك الرجل “روبنسون كروزو” الذي عاش سنوات عمره على جزيرة فيقشعر بدني.
كان لا بد من مأوى، فأنا لا أعرف إلى متى سأظل في هذا المكان، وبعد أكثر من شهر قضيته في العراء والشمس الحارقة تلفحني، قررت أن أبني بيتًا، وكنت في صراع بين أن أبني بيتي على الشاطئ حتى أراقب سفينة الإنقاذ، وأن أبنيه بالقرب من طعامي وشرابي، والذي حسم الموضوع هو الأخشاب.
لقد قررت أن أبني بيتي من حطام ذلك المركب الذي عملت فيه كبحار مدة خمس عشرة سنة كاملة، وواحدة من أخشابه حملتني لتبقيني على قيد الحياة من دون باقي الركاب.
بدأت كل يوم أذهب لأشجار النخيل أتناول طعامي وأجر معي بعض الأغصان إلى مكان الخشب؛ حتى تكون لدي مجموعة لا بأس بها من أغصان النخيل، فرحت أرفع الأخشاب وألصقها ببعضها البعض بأغصان النخيل لأبني بيتي، وبعد جهد مضني أصبح لدي بيتًا جميلًا، لم يكن كبيرًا ولكنه جميل.
ترى كم من الوقت سأقضيه في هذا المكان، راودتني من جديد قصة “روبنسون كروزو”، الذي عاش سنوات في منطقة مشابهة، ومن جديد اقشعر بدني ولم أتمالك نفسي، فما أن خطت قدماي ذلك البيت في أول ليلة أقضيها تحت سقف منذ أكثر من شهر، حتى سجدت إلى الله، أشكره على ذلك البيت.
لم أستطع النوم بعدها، يبدو أني اعتدت على النوم في العراء، فجلست، ومن جديد صليت إلى إله السماء، طوال الليل أخذت أصلي حتى رحت في النوم ولم أشعر بنفسي إلا عندما ظهر نور الصباح، فذهبت لأبحث عن طعامي من جديد في رحلة تستغرق وقتًا طويلًا.
***
وفي رجوعي هالني ما رأيت… ذلك البيت الذي تعبت فيه أيامًا طوال، لم أهنأ به أكثر من ليلة واحدة؛ فما أن أصبحت الشمس في كبد السماء، حتى سخن ذلك البيت، ولست أدري ما الذي حدث حتى اشتعلت فيه النيران وبدأت تأكل فيه، أصابني اليأس وأنا أصرخ وأصرخ، دون أن أحاول إنقاذ ذلك البيت الذي أحببت أخشابه وكانت مصدر قوتي ورزقي خمس عشرة سنة، وكانت وسيلة نجاتي من الغرق أيضًا، وها هي تنتهي هكذا سريعًا، جلست أتأمل ذلك الدخان المتصاعد إلى كبد السماء في إحباط، وأنا أبكي في هستيريا شديدة وأتساءل، لماذا يأرب؟! أهذه هي استجابة دعائي؟! طوال الليل أصلي أن تنتهي محنتي فتكون نتيجة ذلك أن تقضي على ذلك المأوى الذي يأويني؟! لماذا يأرب؟! ليتك كنت أمتّني مع الآخرين ولا أتعرض لكل هذا، لقد تعبت تعبت، وتهاوت قدماي في يأس، ومن تعبي رحت في نوم عميق، إلى متى لست أدري، ولكني استيقظت ويد تهزني بشدة، لأستيقظ وأجد مجموعة من البحارة واقفون حولي.
– كيف … كيف وجدتموني ؟
قلتها في مزيج من الاندهاش والفرحة، أنا الذي كنت كل ليلة أراقب البحر بشوق أن أجد سفينة تسير فتنقذني، تجدني السفينة نائمًا في وضح النهار؟؟ كيف؟!
قال لي من كان يهزني:
– هذا المكان لا تسير فيه أي سفينة، ولكن الدخان الكثيف المتصاعد من منزل يحترق جعلنا نشك في وجود حياة على تلك الجزيرة المهجورة، لا يمكن كنت ستجد أي سفينة تسير في هذا المكان لولا أنك أحرقت منزلك، لقد أحرقته في الوقت المناسب جدًا بحيث استطعنا أن نراك، أنت محظوظ يا رجل!
– محظوظ… أجل محظوظ… ليس بسبب ذكائي، ولكن لأن من رافقني طوال هذه الرحلة يعتني بي جيدًا.
– من؟
نظرت إلى السماء وقلت:
– إنه هو الذي في يديه مقاليد حياتي، أتذمر وهو لا يغضب، أتعلق بأخشاب ولكنه هو المنقذ، في الوقت الذي أتذمر فيه لأجل أخشاب بالية محروقة، أجده يستجيب صلاتي بحرق تلك الأخشاب في الوقت المناسب، إنني حقًا محظوظ… لقد استجاب دعواتي وأنقذني بحرق بيتي.

المصدر: كتاب السباق الأخير

للكاتب :عماد حنا

مواضيع تهمك
شارك اصدقائك