العهد القديم ومِصر القديمة (جـ1)
Roma
العهد القديم ومِصر القديمة (جـ1)
المحتوي
واحدة من أشهر الادعاءات التي يروّج لها منتقدو الكتاب المقدس، هي أن شعب الله في العهد القديم استلهم شكل الطقوس والعبادات، من العبادات المصرية القديمة، خلال الفترة التي مكث فيها بنو إسرائيل في مصر. ويُستخدم هذا الادعاء للتشكيك في مصدرية الكتاب المقدس، والقول بأنه ليس كتابًا سماويًا، بل إنه من تأليف بشر تأثروا بحضاراتٍ سابقة.
قبل الرد على هذا الادعاء الذي قُتل بحثًا، من الضروري توضيح مفهوم مهم، وهو أن الله، ووفقًا لما جاء بالكتاب المقدس، أعلن الله عن ذاته للبشر، من خلال عدة طرق:
1. إعلان الله في الخليقة :
“مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ نَفْسَهُ بِلاَ شَاهِدٍ، وَهُوَ يَفْعَلُ خَيْرًا: يُعْطِينَا مِنَ السَّمَاءِ أَمْطَارًا وَأَزْمِنَةً مُثْمِرَةً، وَيَمْلأُ قُلُوبَنَا طَعَامًا وَسُرُورًا.” (سفر أعمال الرسل 14: 17).
2. إعلان الله في ضمير الإنسان:
“لأَنَّهُ الأُمَمُ الَّذِينَ لَيْسَ عِنْدَهُمُ النَّامُوسُ، مَتَى فَعَلُوا بِالطَّبِيعَةِ مَا هُوَ فِي النَّامُوسِ، فَهؤُلاَءِ إِذْ لَيْسَ لَهُمُ النَّامُوسُ هُمْ نَامُوسٌ لأَنْفُسِهِمِ،” (رومية 2: 14).
من خلال هذه الطرق،
كان الإعلان عامًا لجميع البشر في كل زمان ومكان. لكن، وبالإضافة إلى ذلك، كان هناك إعلان خاص قدَّمه الله لشعبه القديم، عبر موسى والأنبياء، وقد تمَّ تأكيده بالمعجزات والآيات العظيمة، وتضمَّن كشفًا إلهيًا واضحًا حول طبيعة الله وخطته لفداء البشرية.
العبادة المصرية القديمة والعبادة الإسرائيلية
لفهم مدى صحة هذا الادعاء، دعونا نُلقي نظرة سريعة على الاختلافات الجوهرية بين العبادة المصرية القديمة والعبادة الإسرائيلية:
1- المفاهيم اللاهوتية (عن الله)
أ- من حيث صفات الله في مصر القديمة، لم يكن هناك إله واحد يجمع كل الصفات العظمى، بل كان لكل صفة أو ظاهرة طبيعية، إله معين. على النقيض، يقدم العهد القديم صورة واضحة عن إله واحد كامل، جامع لكل الصفات الإلهية، وهو الخالق القدير (يهوه)، كلي القدرة، كلي الوجود، وكلي العلم.
ب- أما من جهة هيئة الله في العقيدة المصرية القديمة، كان الآلهة يُصوَّرون غالبًا بأشكال حيوانية، أو أجساد بشرية، ورؤوس حيوانات. أما في العهد القديم، فلا يوجد أي تشبيه لله بصفات مادية ملموسة، بل كان يُصوَّر بأنه كائن روحاني مطلق، لا يمكن تمثيله بصورة مادية.
ج- وعن تعدد الآلهة؛ فالديانة المصرية القديمة كانت ديانة تعددية، حيث وُجدت مجموعات من الآلهة، مثل “تاسوع هليوبوليس” وثالوث طيبة، وكل مدينة كان لها آلهتها الخاصة. حتى في عهد إخناتون، الذي حاول فرض التوحيد بعبادة الإله آتون، لم يكن هذا التوحيد مطلقًا، ولم يستمر بعد وفاته. بالمقابل، يؤكد العهد القديم على وحدانية الله بشكل قاطع، على سبيل المثال لا الحصر:
- “إِسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ: الرَّبُّ إِلهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ” (تثنية 6: 4).
- “أَنَا الأَوَّلُ وَأَنَا الآخِرُ وَلاَ إِلَهَ غَيْرِي” (إشعياء 44: 6).
د- وعن جنس الله في العقيدة المصرية القديمة، كان هناك آلهة ذكور، وآلهات إناث، بينما في العهد القديم، ليس لله جنس محدد، بل هو إله متعالٍ عن كل هذه التصنيفات البشرية.
هـ – الشكل الأسطوري لله، كانت لآلهة مصر القديمة، قصص أسطورية حول نشأتها وحياتها، مثل أسطورة أوزيريس وإيزيس. أما في العهد القديم، فالله أزلي، ليس له بداية، ولا يرتبط بأساطير خيالية.
2- الطقوس الدينية
أ – الذبائح والقرابين في الديانة المصرية القديمة، كانت القرابين تُقدَّم للآلهة يوميًّا، وكانت عبارة عن طعام وشراب وتماثيل ذهبية، وكان الكهنة يقومون بهذه الطقوس نيابة عن الشعب. أما في العهد القديم، كانت الذبائح تُقدم لله كفارة عن الخطايا، وليس كوسيلة لإطعامه، كما ورد في (مزمور 50: 12-13): “إِنْ جُعْتُ فَلاَ أَقُولُ لَكَ، لأَنَّ لِي الْمَسْكُونَةَ وَمِلأَهَا. هَلْ آكُلُ لَحْمَ الثِّيرَانِ، أَوْ أَشْرَبُ دَمَ التُّيُوسِ؟“.
ب – وعن دور الكهنة المصريون، فقد كانوا موظفين رسميين يخدمون في المعابد وفقًا لقواعد الدولة، بينما كان الكهنوت في العهد القديم، محصورًا في نسل هارون من سبط لاوي، وكانت مسؤوليتهم الرئيسة هي الوساطة بين الله والشعب.
جـ – أماكن العبادة في مصر القديمة، كانت المعابد ضخمة ومزينة بالنقوش والتماثيل، بينما في إسرائيل، كان الهيكل المكان الوحيد المخصص لعبادة الله وفقًا لنظام صارم يحدد الطهارة والشعائر.
3- الأخلاق والتشريع
أ – ، كان وزن قلب الإنسان بعد موته هو المحدد لمصيره في الحياة الآخرة. أما في العهد القديم، فالخطيئة مفهوم أخلاقي وروحي يتطلب التوبة والكفارة.
ب – وعن التشريع الديني في الديانة المصرية، لم تكن هناك شرائع أخلاقية موحدة، بل كانت القوانين تأتي من الفراعنة والكهنة. في المقابل، أعطى الله الشريعة لموسى، التي تضمنت الوصايا العشر ونظامًا قضائيًا متكاملًا.
من خلال مقارنة العقيدتين،
يتضح أن الفرق بين العبادة الإسرائيلية والعبادة المصرية القديمة، جوهري، وليس مجرد اختلاف شكلي. وأي تشابه -إن وُجِد- لا يمتد إلى الجوهر والمضمون؛ مما ينفي الادعاء بأن الديانة اليهودية مقتبسة من العقائد المصرية. إنما كان هناك إعلان خاص أعلنه الله لشعبه في العهد القديم، وكلفهم بنقله إلى العالم. سنُكمل في المقالة القادمة بمشيئة الله، تحليل بقية الادعاءات حول التشابه بين العهد القديم والديانات المصرية القديمة.
تحرير: مينا نبيل
المادة البحثية: بحث بعنوان: (هل من علاقة بين العبادة المصرية القديمة والعبادة اليهودية؟)، للدكتور القِس: صبري مُسعَد.