هل تريد أن تكون أبي؟

william

هل تريد أن تكون أبي؟

بعد كثير من التردد رفع يده الصغيرة وشب عن الأرض ليدق جرس الباب.. كان خائفًا بعض الشيء.. للوهلة الأولى فكر أن يهرب إلى خارج البيت.. ولكنه تماسك وظل واقفًا.. دقائق قليلة وفُتح الباب ليجد أمامه رجلًا في ثياب منزلية.. نظر إليه، كان في حالة يُرثى لها.. شعر طويل مجعد لونه أبيض… عيون لم تذق طعم النوم، حمراء متورمة من البكاء.. وجه أحمر متجهم.. شعر بالخوف من هذا الشخص، ولسان حاله يقول: “ما الذي جاء بي إلى هنا؟!!”. قطع أفكاره سؤال الرجل الحزين له:
– ماذا تريد يا بني؟
– هل أنت الأستاذ صالح؟
– أجل.
– أنا أيمن.
– أهلًا بك… بماذا أخدمك؟
تردد الصبي قليلًا، وبدا وكأنه لا يعرف كيف يبدأ الحديث… ثم قال أخيرًا:
– هل تسمح لي بالجلوس؟
أشار الرجل إلى كرسي قريب، وقال:
– تفضل.
جلس الصبي وأمامه جلس الرجل الحزين، ثم قال يستحثه على الكلام:
– إذًا…
كان لا يزال الصبي مترددًا، ولكنه استجمع قواه وقال:
– أنا أيمن ابن مرزوق.
نظر الرجل إليه… ومسح عينيه المتورمة كي يتمكن من أن يرى الصبي جيدًا وقال:
– أنت؟
– أجل.
– أنت ابن الرجل الذي أفسد حياتي؟ أم أنه مجرد تشابه في الأسماء؟ قل لي بالله عليك.
الصبي مترددًا:
– بل أنا هو يا سيدي.. ابن من قتل ابنك في العام الماضي.
نظر له كالمجنون… وبدا أنه لا يدري ماذا يقول أو ماذا يفعل.
– لماذا جئت؟ من المفروض أن يخرج والدك من السجن اليوم… ألن تذهب للقائه؟
قال:
شعرت أنك أنت أيضًا سوف تذهب للقائه ، لذلك جئت لتحقيق العدل.
كانت كلمة “العدل” هي مصدر تعب لذلك الرجل الذي ظل طوال عام كامل يتساءل أين العدل في كل الذي حدث له ولعائلته التي فقدها، لذلك ما أن نطق الصبي بهذه الكلمة، كان كمن ضغط على جرح عميق عند الرجل فصرخ:
– عدل؟! أي عدل هذا؟ الرجل يقتل ابني الذي انتظرت وصوله إلى هذه الدنيا أربع عشرة سنة… أربع عشرة سنة أنتظره أنا وأمه ويأتي هو ببساطه ويصدمه بالسيارة ويهرب… وفي آخر الأمر، يدخل إلى السجن لمدة سنة… سنة واحدة بدلًا من أن يُشنق… هل هذا هو العدل؟ أن يخرج إلى النور اليوم… ويتركني فريسة للحزن والألم.
– سيدي…
– هل تعلم أنه لم يقتل ابني فقط؟ أجل… لقد قتل زوجتي أيضًا… هل تعلم هذا؟
نظر الولد إليه مشدوهًا.. وقال:
– زوجتك.. كلا.. لم أعلم.. لقد قالوا لي أنه صدم شخصًا واحدًا فقط .. طفل.
اقترب وجه الرجل من وجه الصبي حتى كادا أن يلتصقا وهو لا يزال يصرخ:
– ومع ذلك فقد قتل أمه التي ظلت تبكي طفلها أربعين يومًا وبعدها لم تستطع المعيشة بدونه، فمرضت وكرهت الحياة ففارقتنا لتموت حزنًا وغمًا، وتتركني بدورها وحدي سجينًا للوحشة والضيق والحقد، وفي النهاية تقول أنك جئت من أجل العدل.. هل تسمي الذي حدث هذا عدل؟
بدا وكأن الصبي يحاول أن يزن كلماته جيدًا وهو يتكلم:
– بالتأكيد لا.. لذلك جئت لكي تحقق العدل.
رفع الرجل صوته أكثر وهو يحكي عن قرار ظل يفكر فيه طوال عام كامل… عام كامل يرتب ويخطط… لم يعد يهتم بمستقبل أو حاضر… ولكن كل همه أن يحقق ذلك العدل المفقود … لذا رد عليه بإصرار عجيب:
– العدل لن تحققه أنت في هذا المكان، بل أنا الذي سأحققه ولن أحققه هنا، بل سأحققه هناك على عتبة السجن ومعي هذا…
ويخرج من جيبه مسدسًا صغيرًا… ثم يكمل كلامه:
– هذا وحده سيحقق العدل… وسيريحني، وسيُريح زوجتي التي ماتت بسبب والدك.
– – يحق لك سيدي أن تفعل هذا… وربما سيشفي هذا غليلك… ولكنك لن تحقق العدل أبدًا بهذا…
وقف الرجل وأخذ يسير بعصبية ظاهرة، ثم ألتفت إلى الصبي وقال:
– لن أحقق العدل؟ من قتل يُقتل… أليس هذا عدل؟
وهنا وقف الولد بدوره، وقد أكسبه الحديث شجاعة مفاجئة فقال:
– ولكنك تظلمني أنا… أنا أحتاج لأب… وأنت ستأخذ مني أبي… أبي الذي أحتاج له… إنه ليس أبي فقط… بل أبي وصديقي… أبي الذي كاد أن يفقد عقله عندما أُصبت بانفجار الزائدة الدودية منذ عام كامل، فحملني إلى سيارته محاولًا اسعافي، وراح يجري كالمجنون في الطرقات، حتى اختل توازن السيارة منه، فصدم طفلًا يمشي في الشارع، ولكنه لم ير شيئًا لأن ذهنه كان مشغولًا بشيء واحد، وهو أن يصل إلى المستشفى لكي ينقذني.. هل أنت عادل وأنت تفقدني أعز ما أملك؟ أنا لم أفعل لك شيئًا لتفعل معي هذا.
وفي نهاية الكلمات تشنجت أعصاب الولد، وراحت الكلمات تهرب من ذهنه ولسانه، فتوقف يمسح دموع سالت من مُقلتيه، بينما لمعت عينا الرجل وهو يرى الولد ويرى فيه صورة ابنه الذي فقده… إنه يشبهه كثيرًا… ماذا يحدث لو كان ابنه هو الذي واجه هذا الموقف؟ وبدا له أن كلمة العدل ضاعت وسط كثير من المعاني… كيف له أن يحقق العدل لنفسه دون أن يظلم غيره؟ سؤال صعب، فتساءل بصوت انخفضت حدته عن ذي قبل:
– وأين العدل في نظرك.
لم يكن في الواقع السؤال موجه للصبي وإن بدا هكذا، ولكنه كان موجهًا في الفراغ، ولكن الصبي كان ينتظر هذا السؤال فقال سريعًا:
– خذني أنا.
نظر الرجل باستغراب.. هل يريد الابن أن يفدي أباه؟.. هل يقصد هذا؟
– هل تريد أن أقتلك؟
– سيتحقق هكذا العدل بالكامل؛ فأنت فقدت ابنك، وأبي بهذه الطريقة يفقد ابنه، ومن يدري فربما أمي تموت حزنًا عليَّ، فتصبحوا خالصين… ولكني لم أقصد هذا.
نظر يتسأل  أكثر وفضول أكثر:
– ماذا قصدت؟
– خذني لكي أكون ابنك… بديلًا عن ابنك الذي راح، سأكون لك نعمّ الابن… وأعرف أنك ستكون أبًا جيدًا… فقط… اترك أبي يعيش.
ابتسم الرجل ابتسامة ساخرة مريرة وقال:
– أنت لن تستطيع أن تكون لي ابنًا أيها الصبي؛ أنت تحب أباك إلى درجة أنك تضحي بنفسك في سبيله، تلك التضحية التي جعلتك تريد أن تتركه وتبق معي على أن يظل أبوك حيًا.. يبدو أن أباك رجلًا صالحًا بالنسبة لك… أليس كذلك؟
نظر الولد إلى الرجل وقال:
– أبي؟ هل هناك مثل أبي؟ طيب وحنون… يحبني ويصادقني… عام كامل افتقدته كثيرًا… لقد كنت في المستشفى عندما قُبض عليه… وقتها جاء إليَّ بعد أن أفقت من العملية التي أُجريت لي وقال: “يا بني… لقد اطمأن قلبي عليك… ولكن في سبيل ما فعلت دون أن أقصد قتلت شخصًا آخرًا… ليسامحني القدير على هذا الأمر الذي لم أكن أقصده، والآن على أن أسلم نفسي… وأتركك، كلما اشتقت إليَّ، ارفع نظرك إلى العلاء وصلي، وكلما تصلي اذكرني واذكر من تسببت في أذيتهم، ولم أره أبدًا بعد ذلك؛ حيث لم ترغب أمي أبدًا أن أزوره في السجن حتى يظل أبي محتفظًا بصورته الحلوة في ذهني.
لم يستطع الرجل أن يستمع أكثر، فصرخ في الصبي:
– اذهب الآن، اذهب لتلتقي بأبيك… اذهب لتشبع به ولترتمي في حضنه.. اذهب واتركني
– هل ستترك أبي يعيش؟
لم يتمالك الرجل نفسه فأجهش بالبكاء، وترك الولد وحده وذهب إلى غرفة أخرى… لم يعرف الصبي ماذا يفعل، ولكنه ذهب ورائه إلى غرفة النوم ليجد على السرير صورة ولد صغير وصورة امرأة وبجانب الأثنين مسدس، ارتمى الرجل المنهار على السرير… ومن وراءه الولد يربت على كتفه ويقول:
– سيدي…
نظر الرجل إليه بعيون تائهة… فأكمل الصغير:
– لقد علمني أبي أنه كل ما تصيبني مشكلة صعبة أو شعور سلبي بالعداوة أو الكراهية، أن أفعل شيئًا واحدًا يجعلني أُشفى من هذه المشاعر.. هل تسمح أن أقوله لك؟
تساءل الرجل بنظراته فأكمل الولد:
– اركع وصلي… اطلب من الله أن ينزع عنك كل ما هو سلبي… سلم له حياتك وقلبك واتكل عليه، إنها طريقة ناجحة… صدقني… قبل أن آتي إلى هنا ركعت وطلبت إله السماء، هكذا علمني أبي، وها أنا أقوله لك… هل تجرب؟
– هل لك أن تتركني وحدي… أرجوك.
– وداعًا سيدي… أم تحب أن أزورك بين فترة وأخرى؟
نظر إليه الرجل… رأى فيه صورة ابنه المفقود… أمسك يده، احتضنه وقال:
أنني فعلًا أحتاجك… هل تعدني بأن تفعل ذلك؟
– أجل… لقد أصبحت صديقي.
وتركه الولد وذهب ليقابل أباه على باب السجن… بينما ارتمى الرجل على سريره ليبكي بكاءًا مريرًا… ويتذكر مشورة الولد… يمسح عينيه… ويركع.

المصدر :كتاب السباق الأخير

للكاتب :عماد حنا

مواضيع تهمك
شارك اصدقائك