في انتظار الطائرة

william

في انتظار الطائرة

كانت تشعر بالتوتر الشديد وهي تنتظر الطائرة التي سوف تقلها إلى أمريكا، وكانت تستمع إلى المذيع الذي ينقل المعلومات بإصغاء شديد في انتظار أن يسمحوا لها بدخول الطائرة، مشاعرها متناقضة ما بين رهبة السفر الطويل، وتحقيق الحلم الكبير، لقد تعبت كثيرًا من هذا البلد، وأيضًا تعبت من الناس الذين في هذه البلد، كانت تشعر أن مشاعرها محطمة وثقتها في الناس معدومة… صُدمت من أقرب الأقربين، وأصبح لسان حالها ما يتغناه المغني الشهير مدحت صالح إذ يقول: “رافضك يا زماني يا مكاني يا أواني… أنا عايز أعيش في كوكب تأني”، كانت هذه هي مشاعرها بعد أن كُسرت وجُرحت وتحطمت، وتمنت لو تكون أمريكا هي ذلك الكوكب الثاني الذي تضع عليه كل آمالها وطموحاتها.
كانت تشعر أنها غير مفهومة، وكل من يحيط بها لا يتمنى لها سوى الضغينة والشر، فقدت ثقتها في الناس، لذلك قررت الهجرة عن طريق القرعة التي تقوم بها السفارة الامريكية، قررت أن تجرب حظها في مكان آخر مع أناس آخرين، ربما تجد اختلافًا في المعاملة والتقدير لشخصها، الأمر الذي لا تشعر به الآن، وعندما قالت لأسرتها أنها وضعت اسمها بين الراغبين في السفر والهجرة، قالوا أن الفرصة للمكسب ضعيفة جدًا، وسط آلاف الناس المتقدمين لهذا الامر، ولكنها قررت أن تجرب، وكانت المفاجأة أنها فارت في تلك القرعة، وهي قلما تفوز في أي مسابقات، فهي في هذا الأمر سيئة الحظ.
ولكن ها هي تفوز الآن، هل أراد لها الله أن يعطيها فرصة أخرى لتستمتع بالحياة في بلد آخر يبعد عن بلدها الحالي بآلاف الأميال؟ ربما، ولكنها بعد أن فازت ما ظلت تحلم به، من جديد شعرت بالخوف، هل فعلًا ستشعر بالراحة في هذا الجو الجديد عليها؟ اختلاف لأنماط الحياة واختلاف السلوكيات، أهي مغامِرة أم مقامِرة على حياة اعتادتها؟ وإن كانت لم تحبها كثيرًا.
أسئلة بداخلها لا تجد لها إجابة، ولكنها جعلتها تشعر بتوتر شديد، وكلما يقترب موعد الطائرة تشعر بتوتر أكثر، شعرت بقليل من الندم لأنها رفضت أن يأتي أهلها لتوديعها على المطار، لقد كانت حجتها لهم أنها لا تحب لحظات الوداع، ولكنها في داخلها كانت تريد أن تبدأ حياتها الجديدة منذ لحظة دخولها المطار، تنظر في ساعتها… يبدو أنها أتت مبكرًا … تشعر بالجوع، تتجه إلى أقرب متجر لتشتري كيس بسكويت، وتتجه إلى مقعد قريب يمكنها من سماع صوت المذيع إذا أعلن عن طائرتها، أغمضت عينيها وتخيلت أهلها وأصدقائها الذين تركتهم، وثمانية وعشرين عامًا من حياتها سوف يتحولون بعد قليل إلى مجرد ذكرى، يجلس بالقرب من مقعدها شاب آخر ويُلقي عليها التحية، ودون أن تنظر إليه ردت التحية بمثلها ولكن يشوبها بعض الجفاء، وبينما توترها يزداد، نظرت إلى الرجل الجالس بجوارها، كان يجلس هادئًا ومبتسمًا، أخذت تبحث عن كيس البسكويت.
– ترى أين وضعته؟
نظر إليها الشاب متسائلا:
– ماذا؟
نظرت له شذرًا.. كما لو كانت تريد أن تقتله لأنه تدخل فيما لا يعنيه ولكنها اكتفت بالرد المقتضب:
– لا شيء.
فعاد الشاب الغريب إلى صمته، بينما وجدت كيس البسكويت بجانبها على الطاولة التي بينها وبين الشاب، ففتحته وتناولت حبة من البسكويت ووضعت الكيس مكانه… وما أدهشها أنها وجدت الشاب يبتسم في هدوء ويمسك بكيس البسكويت بدوره ويتناول حبة ويرجع الكيس مكانه، ويأكل حبة البسكويت بمنتهى الهدوء… بينما هي تنظر إليه وقد وصلت إلى مرحلة الغليان!!!
كعادتها، صارت تمسك بيديها وتحك الكفين بعضهما ببعض عندما تنفعل، من هذا السمج الذي يقتحم الخصوصيات بدون إذن؟ إنه أمر بسيط ولكنه وقح.
مشاعرها متناقضة بين تفاهة الشيء الذي يغضبها وعدم استطاعتها أن تسيطر على غضبها، فتحاول ألا يظهر هذا الأمر على سلوكها أو على وجهها، تمتد يدها إلى كيس البسكويت لتنال قطعة أخرى، وتُفاجئ بصاحبنا هذا بنفس الهدوء، يمد يده ليتناول بدوره قطعة من البسكويت، فيتحول لون وجهها إلى الأحمر القاتم من فرط الانفعال، وتمنت لو تصرخ في وجهه: “اللعنة عليك يا رجل… لماذا تقتحم حياتي؟ ماذا تريد؟”، ولكنها تحاول أن تتمالك نفسها، فالذي أخذه مجرد قطعة بسكويت (لا راحت ولا جت)، وسيضحك منها الناس إذا احتدت على هذا الأمر التافه، تمتد يدها وتأخذ قطعة جديدة من البسكويت، لتجد أنه هو أيضًا، مع تلك الابتسامة التي بدأت تستفزها، يأخذ قطعة، تاركين قطعة واحدة من البسكويت على الطاولة.
أخذت تنظر في ساعتها وتقول لنفسها: “متى أتخلص من هذا السمج؟”، كانت تحاول أن تتخلص من تلك المواجهة لشخص سخيف يحاول أن يأكل طعامها دون استئذان، وتساءلت: “هل هو نوع من المعاكسة السخيفة لرجل يريد أن يتعرف على شابة؟”، ربما، ولكنه لم ينجح أبدًا في جذب انتباهها بصورة إيجابية، بهدوء نظرت إلى القطعة الأخيرة من البسكويت، فوجدت ذلك الشاب وقد امتدت يده عليها، ليقسمها إلى نصفين، يأخذ النصف ويأكله ويترك النصف الآخر لها، وكأنما بفعلته هذه أشعل الفتيل الذي يؤدي إلى الانفجار، فقامت من مكانها ونظرت إليه شذرًا، وقبل أن تنطلق لتصب لعناتها عليه، ملأ صوت المذيع الداخلي المكان: “على المتجهين إلى نيويورك التوجه إلى ……”، أوقف المذيع كل ما كانت تنوي أن تفعله لحسن حظ الرجل، فما كان منها إلا أن قالت:
– هذه طائرتي.
وبهدوء ابتسم لها الرجل ابتسامته الودودة وقال :
– في أمان الله يا آنستي… سررت بمعرفتك.
رغبت أن تقول شيئًا… أي شيء… يطفئ الغضب شديد الذي بداخلها… ولكنها يجب أن تغادر.. ماذا تفعل لتفرغ شحنة الغضب التي لديها… لم تجد شيئًا… قالت له بحنق شديد:
– سلام.
وتركت المكان مسرعة، وفي يديها جواز السفر لتلحق بالطائرة.
* * *
جلست الفتاة على مقعدها المريح، وبداخلها كل تلك المشاعر تجاه شخص لم يتعامل معها سوى لحظات… حتى أنه أنساها كل ما يعتريها من مخاوف تجاه أرض الغربة… مدت يدها إلى حقيبتها لتتناول منها بعض المناديل ونظارتها، وكانت المفاجأة أنها وجدت كيس البسكويت الذي اشترته من المطار وقد وضعته في الحقيبة.
وعندها شعرت كأن دلوًا من الماء البارد سُكب على رأسها…
لم يكن هو الذي تطفل عليها إذن… بل هي التي تطفلت عليه… ماذا يقول عليها الآن؟ دمعت عيناها وأغمضتها دون أن تحاول أن تمسحها.. وفي مخيلتها.. شاهدت كثيرًا من الذكريات التي تركت فيها أثرًا، أغضبتها من أصدقاء ومن زملاء… وكان سؤالها الذي أثار حيرتها… ماذا لو كانت كل هذه المواقف تشبه هذا الموقف الذي حدث؟ ماذا لو كانت هي المخطئة في حق الآخرين وبالرغم من ذلك ملأت الدنيا صياحًا وتذمرًا ولكن لم تسنح لها الفرصة أن تكتشف هذا الأمر مثلما حدث الآن؟
والسؤال الحائر الذي ظل بلا إجابة: “لماذا لم يكن رد فعلها هو نفس ردة فعل الشاب؟”، ابتسامة بسيطة دون أن تفقد سلامها… أيضًا لم تجد إجابة.
ولكنها اكتشفت شيئًا خطيرًا… تغيير الأرض وتغيير الناس وتغيير نمط الحياة لن يحل مشكلتها؛ فهذه الأمور ليست هي كل ما تحتاج… إنها تحتاج إلى تغيير آخر… أن تغير من ذاتها هي… هل تستطيع؟!!

المصدر :كتاب السباق الأخير

للكاتب :عماد حنا

مواضيع تهمك
شارك اصدقائك